نجلاء بودن .. توظيف السلطوية ومراهنة نسوية
شكّلت نجلاء بودن الحكومة التونسية، في ظل وضع شائك، وأزمة سياسية زادتها تأزماً الإجراءات الاستثنائية التي استخدم فيها رئيس الجمهورية، قيس سعيّد، نصوصاً دستورية ليمتلك كل السلطات، بالإضافة إلى أزمة اقتصادية واجتماعية دفعت حركة الاحتجاج في عموم البلاد التونسية، على إثر إخفاقات حكومات ما بعد الثورة وأزماتها. ومن المهم، في هذا السياق، النظر في ترؤس بودن الحكومة، فتكون بهذا أول رئيسة وزراء، عربياً، في إطار المشهد العام الكلي والأساسي، وليس بعزله عن مجريات الأحداث، بجعله الحدث الجزئي الموضوع محل الجدل. يسوق بعضهم القرار بوصفه إنجازاً نسوياً وتحقيقاً لمبدأ المساواة وخطوةً لتحقيق مبدأ التناصف، لكن التوصيف المترافق مع ترحيب واسع (تونسي وعربي) يتجاهل الأزمة الشاملة، وغارق أغلبه في الآمال، ويريد تقليص المشهد العام المتأزم في جانب واحد، الانتصار لقيم المساواة والتناصف والحداثة عبر تعيين امرأة لقيادة الحكومة.
وتتضح هنا أهداف القرار بوصفه ورقةً توظّف خارجياً وداخلياً، ولها أهدافٌ تخصّ متخذ القرار، تتعلق بالصورة التي يريد رسمها عن نفسه. داخلياً، جاءت نجلاء بودن لاستمالة التيار الديمقراطي والنسوي في مواجهة أنصار حركة النهضة، ومحاولة لاستيعاب الأصوات المتخوّفة من نشأة سلطويةٍ جديدة. لغة السلطة ترى في التعيين تكريماً للمرأة التونسية، وبالتالي ليست استحقاقاً ونتاج نضالاتٍ للحركة النسوية. وطالما لم تأتِ مسألة وصول النساء إلى مواقع اتخاذ القرار كتجارب أخرى نتيجة عملية انتخابية أو نضال حزب أو تحالف سياسي يدفع مرشّحته إلى رئاسة الحكومة. لذا، سيكتب الفضل لمتخذ القرار، وتصبح تعبيراً عن أفكار الرئيس ومنطلقاته، وتجسّد صورة الزعيم أكثر من أنها نتاج حراك نسوي أو حراك مطلبي.
رسّخ اختيار رئيسة حكومة منقطعة الصلة بالمجال العام اتجاهاً لدى قطاعات شعبية عانت من التحالفات السياسية بعد الثورة
في مشهد استقبال قيس سعيّد رئيسة الحكومة، تظهر على مكتبه صورتان: واحدة لنساء صناعة الطين (الفخار) في أثناء زيارته حيّ هلال في العاصمة، في ذكرى صدور مدوّنة الأحوال الشخصية، والأخرى وهو يحتضن طفلاً. وبرموز الصورتين، والتفاعل المستهدف بين الجمهور وصاحب الرسالة، تُعاد سردية الزعيم راعي الطفولة والأمومة، في تماثلٍ مع نموذج مكرّر للرئيس الأب.
ومن بين سمات السلطوية العربية أيضاً، معاداة العملية السياسية، لذا جاء اختيار رئيسة حكومة منقطعة الصلة بالمجال العام، ليرسّخ اتجاهاً لدى قطاعات شعبية عانت من التحالفات السياسية بعد الثورة. وبهذا يتقاطع مع سمة أخرى للسلطوية تجسيد حكم الفرد ومعاداة السياسية والمنافسين السياسيين، حتى ولو من الاتجاه نفسه، أو تشاركوا معه الأهداف.
تأتي حكومة بودن هيئة مؤقتة، بينما يعوَّل عليها في تحقيق أهداف طويلة الأمد، وحلّ معضلات قائمة تتعلق بإصلاح الاقتصاد ومواجهة الفساد. يتصوّر بعضهم أن رئيسة الحكومة قادرة على مخاطبة المؤسسات المالية، ومعالجة أزمة الاقتصاد، لأنها أسهمت في تنفيذ برنامج للبنك الدولي في وزارة التعليم. وهنا تُحمَّل رئيسة الحكومة ما لا تستطيع عملياً، وتُظلم معها التجربة الأولى في تولي امرأة رئاسة حكومة عربية. ويزيد من التحدّي الذي يواجهها، الظرف الاستثنائي سياسياً والأزمة الاقتصادية، غير أوضاع صحية فاقمتها جائحة كورونا، ومع رئيسٍ يمتلك كل السلطات، فإن احتمال أن يكون أعضاء حكوماتها عملياً كتّاب دولة، قوي، مرتبطين بمن عيّنهم، وهو التخوّف الذى عبّرت عنه قوى سياسية وأصوات نسوية رحبت بتكليف بودن تشكيل الحكومة، حيث تصعب المهام مع مشكلات البنية السياسية، وانقسام في الشارع بشأن الإجراءات الاستثنائية، وتخوّف من غياب خريطة للطريق ونظام سياسي غير معلوم الملامح، يسيطر عليه رجل واحد.
يسعى قيس سعيّد، عبر ترؤس سيدة الحكومة الجديدة، لتحقيق أهداف وإطلاق رسائل متنوعة، تخاطب قوى الداخل، النساء عموماً، والتيار النسوي خصوصاً
تُظلم نجلاء بودن مرتين: أولاً، بوصفها رئيسة وزراء تواجِه تحدّيات كبيرة، وغياب سند اجتماعي أو تشريعي لها، وستعمل مع رئيس يمتلك كل الصلاحيات. وثانياً، في حال تقييم تجربة تولي المرأة رئاسة الوزراء من منظور نسوي، سيكون افتقادها الخبرات السياسية، منظوراً للنوع الاجتماعي، يجعل الحكم على التجربة متسرّعاً، وربما ظالماً. كذلك لا يحمل وجود ثماني وزيرات (من أصل 24) دلالاتٍ جندرية ذات وزن، إلا بمقاييس ترتكز على الكمّ، لا الكيف والنوعية، وبوضع تاء مربوطة للتزيين وجندرة اللغة (إضافة التاء المربوطة ومخاطبة النساء)، ضمن منهج نسوي شكلي، يعتبر الجندرة هذه مراعاة للنوع الاجتماعي، من دون اعتباراتٍ لقضايا مهمة وثيقة الصلة بتحقيق المساواة والعدالة ورفض التمييز على أساس النوع والطبقة أيضاً. ولا يُستغرب هنا أن تكون النسوية الشكلية المنشغلة بإضافة تاء مربوطة منفصلة وغير مهتمة بمفاهيم الديمقراطية والحق في التنظيم وبناء التحالفات والعمل المشترك لتحقيق المساواة والعدالة، وتتجاهل أن الديمقراطية هي طريق وصول النساء إلى مواقع اتخاذ القرار. والديمقراطية أيضاً ليست منفصلةً عن تحقيق برامج وسياسات عادلة لكل المواطنين، وفي القلب منهم النساء وكل الفئات ذات الوضع الهش التي تعاني أشكالاً من التمييز على أساس النوع والطبقة والدين والجهة في أحيان كثيرة.
ويمكن تأمل تجارب ونماذج، كانت النساء فيها تتولّى مواقع اتخاذ القرار، سواء بشغل موقع الرئيس أو رئاسة الحكومة، وهي تجاربُ مرّت في قارّات العالم عبر الديمقراطية، لا بالعبور فوقها، وبينها وبين تجارب الوطن العربي في تمكين النساء (شكلياً) فرق كبير، لكن نسوية الدولة والنسوية الشكلية المنشغلة بجندرة اللغة (ولو ادّعت الثورية) تلتقي أحياناً في خط واحد، الرضى بما تجود به السلطوية، وبذلك تظلّ أغلب مكونات الحركات النسوية العربية رهينة السلطة، وينتج في داخلها مع كل تغيرٍ سياسيٍّ فرصة لتعميق توجه انتهازي، طالما انتظرت منح السلطوية لتحقيق شعارات المساواة والتناصف ومطالبهما. وبدورها توظفها السلطوية النسوية لتحقيق أغراضها، وإضافة محسّنات إلى حكم الفرد، لتبني نموذج الرئيس الراعي المنحاز إلى مطالب النساء.
عملياً، يحاول قيس سعيّد استعادة ماضي تونس عن تمكين النساء والعلمنة والمساواة، وبعث العهد البورقيبى، وإعادة عجلة الزمن، واستغلال (وتوظيف) مطالب حقيقية وهامة للنساء، بل والمجتمع ككل، كمبدأ المساواة والعدالة الجندرية، ووصول النساء إلى مواقع اتخاذ القرار، لكن قيس سعيّد الذي يرفع تلك الشعارات أظهر طابعاً محافظاً سابقاً، ورفض مشاريع قوانين تتعلق بالمساواة (كقانون الميراث)، بينما الآن يغير سلوكه ويناور، من أجل تثبيت المسار السياسي الذى يتزعمه.
تُظلم نجلاء بودن بوصفها رئيسة وزراء تواجِه تحدّيات كبيرة، وغياب سند اجتماعي أو تشريعي لها، وستعمل مع رئيس يمتلك كل الصلاحيات
يسعى قيس سعيّد، عبر ترؤس سيدة الحكومة الجديدة، لتحقيق أهداف وإطلاق رسائل متنوعة، تخاطب قوى الداخل، النساء عموماً، والتيار النسوي خصوصاً، الذي يضمّ نخباً انتمت إلى الحركة الحقوقية والديمقراطية، وتنتمي إلى أحزاب متنوعة، ويصوّر نفسه منحازاً للحداثة وتمكين النساء وقيم العلمانية. وقد قوبل القرار بترحيبٍ أظهرته، على سبيل المثال، جمعية النساء الديمقراطيات والاتحاد الوطني لنساء تونس وغيرها من منظمات أهلية وقوى سياسية، وهو يريد، بالقرار، حلحلة المواقف المتشكّكة في توجهاته، ومنها قوى ديمقراطية ويسارية. وشكّل بعد رئيسة الوزراء عن الوسط السياسي أمراً مريحاً لشارعٍ يفيض برفض التجربة السياسية والبرلمانية التي قادتها تحالفات حركة النهضة وأحزاب بن علي (خصوصاً قلب تونس ونداء تونس)، وهي التجربة التي خيبت الآمال، وأبقت على الأزمة، لكن ذلك، في المقابل، يعني ضمنياً المراهنة على الرئيس سعيّد نفسه، فرداً، ورفض الأحزاب عموماً، وبوصف كل السياسيين جزءاً من منظومة فساد، لا يمتلكون حلولاً، بأنهم مجرّد مثقفين يرفعون الشعارات. ويوجّه قيس سعيّد بتعيين بودن رسائل إلى الخارج، مغزاها أنه ليس منفرداً بالسلطة، وسيضع خريطة طريق تكون الحكومة جزءاً منها، وهو ما بدا في خطاباتٍ رسميةٍ واتصالاتٍ مع القوى الدولية، منها ألمانيا وفرنسا والولايات المتحدة. وبهذا تصبح قرارات "25 يوليو"، تجميد البرلمان وامتلاك الرئيس السلطات القضائية والتشريعية والتنفيذية، مقبولة ضمن مرحلة انتقالية، يعاد فيها ترتيب السلطة.
وفي النهاية، لا يمكن، على الرغم من المناورة التي استخدمها قيس سعيّد، إنكار دور التونسيات والحركات الاجتماعية والمجتمع المدني في دفع مطالب النساء على طاولة السلطة والمجتمع، وحتى خطاب سعيّد الذي يغازل به النساء والشباب اليوم ليس مجّانياً، ويدلّ على ثقل الحركة الشبابية والمجتمع المدني وتأثيرهما. ولم تأتِ مواقفه من فراغ، بقدر ما أنه مزاوجةٌ بين مطالب قطاعاتٍ شعبيةٍ مؤثّرة، يقايض فيها سعيّد الامتيازات بالقبول بالنظام السياسي الجديد الذى يريد بناءه، ويحاول مناقشته مع قوى نقابية ونسوية ورجال مال وأعمال. لكن ما يجري، سواء كان يجري تضخيمه أو وصفه بتصحيح المسار، محلّ اختبار، كما طرْحُ تعيين نجلاء بودن رئيسة للوزراء محل احتفاء وانتصار للحداثة والمساواة والديمقراطية وحقوق النساء.