نتنياهو يأخذ وقتاً مستقطعاً لاحتواء العاصفة
بدت استجابة رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، لدعوات وقف إجراءات تغيير النظام القضائي في إسرائيل، أقرب إلى "الوقت المستقطع" الذي يطلبه مدرّب فريق رياضي، لكي يلتقط أنفاسه ويعيد ترتيب صفوفه، أملا في تلافي هزيمة وشيكة ومحتّمة. فقد تضافرت الاحتجاجات الجماهيرية الواسعة والإضرابات غير المسبوقة التي شلت مرافق الدولة والاقتصاد، مع الضغط العلني الشديد من إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن على نتنياهو، ما اضطرّه إلى تعليق "خطّة الإصلاح القضائي"، وهو الذي كان يصم أذنيه عن كل الدعوات التي أطلقها معارضوها ثلاثة أشهر، بما في ذلك نداء عاطفي أشبه باستغاثة أطلقه رئيس الدولة، إسحق هيرتسوغ، بقوله إن خطر الحرب الأهلية بات واقعياً.
كما تجاهل نتنياهو الواثق بقوة ائتلافه اليميني، وبالأغلبية الميكانيكية التي يملكها في الكنيست (64 نائباً من 120) نصائح قادة دول صديقة، مثل بريطانيا وألمانيا وفرنسا، وما نقله مبعوثون للإدارة الأميركية، فضلاً عن مواقف قادة المجموعات وقوى الضغط اليهودية والصهيونية في الولايات المتحدة التي مالت إلى معارضة التغييرات. ولكن الأمور خرجت عن السيطرة، فعلى امتداد 12 أسبوعاً تدحرجت كرة الثلج وتضخّمت، وكادت تطيح الحكومة نفسها بعد أن وصلت ارتداداتها إلى صفوف الائتلاف الحكومي، بل إلى حزب الليكود، حين دعا وزراء في الحزب ونوابه إلى الحوار وتاجيل البتّ في التشريعات.
لم يقنع انحناء نتنياهو أمام العاصفة معظم المحتجّين، فهو استغل خطابه القصير ليعلن استمرار قناعته بالتغييرات. وما لفت المراقبين والمحلّلين أنه لم يخاطب المجتمع الإسرائيلي بوصفه رئيساً لوزراء الجميع، بل قَرَن رسالة التهدئة والدعوة إلى الحوار والتفاهم بمغازلة القاعدة الانتخابية لائتلاف اليمين واليمين المتطرّف، التي يغلب عليها اليهود الشرقيون والطبقات الأدنى في المجتمع وسكان "مدن التطوير"، علاوة على نسبة مهمة من المستوطنين، وقد خاطبهم بالقول: "لستم ولن تكونوا مواطنين من الدرجة الثانية". ويمكن تفسير ذلك ببساطة بأن نتنياهو تراجَع مؤقتاً في انتظار لحظةٍ أكثر مواءمة للانقضاض على خصومه وإجراء التغييرات، علماً أنه أنجز تغييرات مهمة، منها القانون الخاص بتحصين رئيس الوزراء ومنع محاكمته.
قدرة نتنياهو على المناورة تقلصت خلال أزمة التغييرات التشريعية أخيرا في ضوء تهديدات بعض أعضاء حزبه وحلفائه بالاستقالة
يعكس خطاب نتنياهو وسياساته بشكل عام، في نظر مراقبين كثيرين، النسخة الإسرائيلية لليمين الشعبوي الذي يجاهر بمعاداته النخب الثقافية والأكاديمية والقيم الليبرالية للطبقة الوسطى، ويعارض كذلك استقلال القضاء والهوامش المتاحة لحرية التعبير وحقوق الإنسان. ومع أنّه من أصول غربية (أبوه بنتسيون ميلوكوفسكي بولندي من مواليد وارسو) وعلماني النشأة والثقافة، وليس معروفاً عنه التديّن على الإطلاق سوى في مراعاة المظاهر الشكلية، إلا أنه يُكثر من الحديث عن روح الأمة اليهودية وجوهرها الخالد المتمايز عن غيرها من الشعوب والأمم، وهو المبادِر إلى سن قانون أساس القومية الذي يعتبر تقرير المصير حقا حصريا للشعب اليهودي. وليست مصادفةً أن نتنياهو يتمتع بعلاقات وثيقة جداً مع زعماء اليمين الشعبوي في العالم وقادته، على شاكلة الرئيس الأميركي السابق ترامب، ورئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان، والهندي ناريندرا مودي. ومع أن اليمين الشعبوي، مثل تلاوين اليمين الفاشي والنازيين الجدد، يعتمد، في العادة، على الطبقات الشعبية الدنيا يحرّضها على "الآخر" القومي أو الديني أو العرقي، فهو من أشدّ أنصار الخصخصة وتصفية القطاع العام، وحرية التجارة من دون قيود، وذلك ما سار عليه نتنياهو في ولاياته الست في رئاسة الحكومة.
لكن شهوة نتنياهو للسلطة، وسعيه المحموم إلى التملص من المحاكمة والسجن بأي ثمن، في ضوء اتهامات الفساد الجدية الموجهة له، دفعاه إلى التحالف مع قوى اليمين الديني واليمين الصهيوني الديني، إلى درجة الارتهان لهذه القوى الأكثر تطرّفا. حتى أن قدرته على المناورة تقلصت خلال أزمة التغييرات التشريعية أخيرا في ضوء تهديدات بعض أعضاء حزبه وحلفائه بالاستقالة حال قبوله بوقف خطة الإصلاح القضائي، فاضطرّ، في نهاية المطاف، مكرها إلى استرضاء حليفه إيتمار بن غفير والموافقة على مطلبه بتشكيل الحرس الوطني تحت قيادته، في خطوةٍ تعني شرعنة التشكيلات المليشيوية القائمة حالياً في المستوطنات، والمعروفة باعتداءاتها المتكرّرة على القرى الفلسطينية، بما في ذلك محرقة بلدة حوّارة أخيراً.
منحت إقالة غالانت المحتجّين دفعة معنوية ومادية وثقة هائلة بالنفس، فارتفع عددهم إلى أكثر من نصف مليون متظاهر
نتنياهو المعروف بدهائه وخبرته الواسعة في السياسة وأحابيلها، ارتكب غلطة الشاطر حين أقصى، الأسبوع الماضي، وزير دفاعه الجنرال يوآف غالانت، الليكودي الذي لا يقل يمينية ولا حماسة للتغييرات القضائية، لكنه اضطرّ لنقل مخاوف القيادات العسكرية، وقلقها على مستقبل إسرائيل وأمنها، في ضوء اعتراضات رئيس الأركان وقادة أجهزة الأمن والأسلحة الرئيسية، إلى جانب رؤساء الأركان السابقين وجنود وضباط الاحتياط، خاصة الطيارين، وضباط الوحدة الاستخبارية 8200، والجنود النظاميين.
منحت إقالة غالانت المحتجّين دفعة معنوية ومادية وثقة هائلة بالنفس، فارتفع عددهم إلى أكثر من نصف مليون متظاهر بعد هذه الخطوة التي اعتُبرت صفعة للجيش الذي يعد أهم مؤسسة في دولة إسرائيل، ويلعب أدورا سياسية وتربوية واقتصادية (شركات الصناعة العسكرية) في غاية الأهمية، كما يرتبط باتفاقيات ومعاهدات مع دول كبرى وجيوشها، خصوصا مع الولايات المتحدة وحلف الناتو، وهو يشكل المعهد الأبرز لتخريج قادة إسرائيل من وزراء ونوابٍ، وحتى رؤساء البلديات ومدراء الشركات الكبرى.
مشكلة الفلسطينيين الجوهرية تكمن في صعوبة استفادتهم من هذه الأزمة في ضوء وضعهم الداخلي المنقسم والمأزوم والمهلهل
ومع أن دوافع شخصية وحزبية وراء خطة الإصلاح القضائي، إلا أن الاحتجاجات كشفت عن جملة من التناقضات المحتدمة داخل المجتمع الإسرائيلي، خلافا للتناقض الرئيسي القائم بين الفلسطينيين العرب والمشروع الصهيوني، أبرزها بين اليهود الغربيين (الأشكناز) والشرقيين (السفارديم والمزراحيم)، والذي يعبر عن نفسه في الثقافة والفنون والعادات والتقاليد واللغة واللهجات والملامح الجسمانية وبعض الطقوس الدينية، وكذلك التناقض بين العلمانيين والمتدينين (الحريديم)، حيث إن لكل فريق أحياءه السكنية ومستوطناته المنفصلة ومدارسه ونظام حياته الاجتماعية وتعريفه معنى اليهودية، إلى جانب التناقضات الطبقية والاجتماعية، والتمايزات التي ظهرت في السنوات الأخيرة بين المستوطنين وسكان مدن الساحل، حيث يتبنّى المستوطنون مواقف متطرّفة تجاه الفلسطينيين، ويدفعون دولتهم إلى مزيد من التطرف. أما التناقضات بين اليمين واليسار، أو أنصار السلام ومؤيدي استمرار الاحتلال، فقد تراجعت بشكل ملحوظ مع استقرار حكم اليمين والانزياح المستمر لكل المجتمع الإسرائيلي وأحزابه نحو اليمين واليمين المتطرف. وجدير بالذكر أن مؤسسي دولة إسرائيل، وأبرزهم بن غوريون، طرحوا مشروعا يسمّى "بوتقة الصهر" لتقليص الفروق بين الجماعات الإثنية المختلفة، وإيجاد شخصية "الإسرائيلي الجديد"، لكن هذا المشروع مُني بفشل ذريع بسبب عنصريته وتبنّيه الثقافة ونمط الحياة الغربيين، على حساب تقاليد اليهود الشرقيين وثقافتهم.
برزت كل هذه التناقضات في الاحتجاجات أخيرا من خلال مواقف واصطفافات مُكوّنات المجتمع الإسرائيلي، وهي تناقضات عميقة وراسخة، تعكس نفسها في عديد من مجالات الحياة، ومن ضمنها الانتماءات السياسية والحزبية وأنماط التصويت، وقد سبق لعدد من قادة إسرائيل ومفكّريها أن حذروا من أن الخطر الحقيقي الذي يهدّد إسرائيل يأتي من داخلها، ومن هؤلاء رئيس الوزراء السابق إيهود باراك الذي حذّر من انهيار إسرائيل في مايو/ أيار 2022 عبر مقاله "لعنة العقد الثامن".
يبدو الموضوع الفلسطيني غائبا عن هذه المعادلة، مع حرص قادة الاحتجاجات على إظهارها "يهودية خالصة"، وحرص فلسطينيي الداخل على ألا يكونوا في جيب طرفٍ ما على حساب حقوقهم وهويتهم، لكن الرابط بين الأزمة الداخلية الإسرائيلية والقضية الفلسطينية كامنٌ حتما في جوهر التناقضات، فمن يستهين بحياة الآخر القومي وحقوقه وإنسانيته لا يمكن له أن يكون متسامحاً مع المختلفين معه في الرأي من أبناء جلدته. وفي المقابل، مشكلة الفلسطينيين الجوهرية تكمن في صعوبة استفادتهم من هذه الأزمة في ضوء وضعهم الداخلي المنقسم والمأزوم والمهلهل.