نبي "الاختيار 3": عبادة طوطم الدراما
ما تعيشه مصر الآن أشبه بأجواء عصر الطوطم، أو ذلك النظام الذي كان يحكم حياة القبيلة في أزمنة ما قبل الديانات، إذ يجري اعتماد مسلسل "الاختيار" في هذه اللحظة عقيدةً تنظّم مجتمع قبيلة 30 يونيو، لينهض بدور الرمز/ الحيوان المقدّس لدى القبائل القديمة، والذي يُحرّم صيدُه أو أكله، كونه الحامي لها من الأعداء المتربّصين، ومن ثم يجري الاحتفال به في أعياد مقدّسة، وتُؤدّى له الطقوس في تبتّل وتضرّع.
في هذا الأجواء، تستحوذ مسألة حماية الطوطم الدرامي، والدفاع عنه ضد هجوم الأشرار، بالنقد والتفنيد ودحض ما يعجّ به من أكاذيب وأوهام، أو حتى السخرية منه، على معظم وقت الجنرال السيسي واهتمامه، وهو الذي يؤكّد، يومًا بعد يوم، أنّ هذا المسلسل هو مشروعه الشخصي، ومعركته الوحيدة، كما لو كان هو منتجه ومؤلفه، أو كأنه لم تبق في البلد مشكلة أخرى، اقتصادية أو سياسية، فانصرف الجهد كله، وكرّست الإمكانات والأدوات كلها إلى الدعوة إلى عبادة المسلسل، والحرب على الكافرين به، والمنكرين له، والمتضاحكين عليه.
كان مدهشًا حقًا أن يكون الاحتفال بشعائر مسلسل الاختيار طاغيًا على الاحتفال بعيد الفطر المبارك، حين أتى رأس الدولة بطاقم عمل المسلسل في صباح العيد، ليفرض على المواطنين ساعاتٍ من البث التلفزيوني المباشر، كلها كلام عن المسلسل وفقه المسلسل ونصوصه المقدّسة وتعاليمه، والتحريض على أعداء المسلسل والتحذير منهم.
بدا الأمر وكأن ثلاثين حلقة من الأكاذيب الملفوفة في قماشٍ درامي، تجاوزت تكلفته مئات الملايين من الجنيهات، لم تكن كافيةً لإيصال الرسالة المطلوبة، فقرّر صاحب المسلسل أن يضيف حلقةً ارتجالية جديدة، وطويلة جدًا، يكمل فيها افتراس المستهدفين من العمل، واستباحة سيرتهم، بينما هم ممنوعون من الردّ، عاجزون عن المنازلة، كونهم تحت الثرى، رحمهم الله، أو تحت أغلال السجن المشدّد، معزولين عن العالم.
ثلاثون حلقة لم تشف غليل الجنرال وفرسان المعبد الدرامي، فكان لابد أن يتكلّم على نحو أكثر درامية، عبر أكثر من عشر قنوات تلفزيونية، ألغت كلّ برامجها، وتشاركت في فترة بثّ مفتوحة، يمكن أن تضع لها عنوانًا رئيسًا هو "هكذا تكلم الجنرال" الذي تجاوز تعصّب أتباعه له مرحلة تعصّب جمهور الزرادشتية لزرادشت، مع مراعاة فروق المستوى العقلي بين الفيلسوف الألماني، فريدريك نيتشه، الذي استلهم نصوص زرادشت، ومخرج الانقلاب العسكري، بيتر ميمي، الذي استفرغ نصوص الجنرال، في وعاء درامي فرضوه على الجماهير، مشروبًا تلفزيونيًا مقدّسًا، على كلّ مواطن أن يتجرّعه بالقوة.
"اللي اتعرض في الاختيار والله والله كان الحقيقة، نحن لم نطغ ولم نعتدي على أحد، وهناك حالة استنفار من جانب الجهات الأخرى تجاه مسلسل الاختيار لمحاولة تشويهه". ثم يبعث رسالة إلى صنّاع الدراما "شفنا ازاي عمل درامي (الاختيار 3) بألف كتاب وألف ساعة حوار".
هكذا تكلم الجنرال زرادشت خلال احتفالية عيد الفطر، أو بالأحرى احتفال أداء الطقوس للطوطم الدرامي المعتمد رسميًا، والذي استقبله الجمهور، في معظمه، باعتباره كوميديا سياسية بلهاء، ولعلّ في ذلك تفسيرًا لحالة الارتباك والتشنّج التي ظهر عليها صاحب المسلسل وهو يروّجه، ويطلب المزيد من الأجزاء.
حين كتب فريدريك نيتشه كتابه الأشهر "هكذا تكلم زرادشت"، في القرن التاسع عشر، اتخذه هتلر فيما بعد أساسًا فلسفيًا لتأسيس حكمه النازي، ووصل به الأمر إلى أن يصف نفسه بأنه "الزعيم الفيلسوف" وهو الوصف الأكثر تواضعًا من وصف آخر اشتهر بعد النازي بنحو قرن، حين اعتبر حاكم من الشرق نفسه "طبيب الفلاسفة". ويقول لنا التاريخ إن أوهام التفوّق والعلو على الجنس البشري كله جعلت كتاب نيتشه مفروضًا باعتباره عقيدة قومية نازية، إلى الحد الذي كان الجنود في الحرب العالمية الأولى يحملونه في حقائبهم، باعتباره نصًا مقدسًا، يستعينون به للتفوق على العدو، الذي هو في نظر النازية الهتلرية في مرتبة وجودية أدنى منهم.
شيء من ذلك تعيشه مصر حاليًا، فإذا كان المواطنون العاديون في مصر، إما مسلمين أو مسيحيين .. فإن هناك طبقة مختلفة يمكن أن تسميها طبقة المواطنين الأعلى، أو غير العاديين، وهؤلاء هم جمهور عقيدة "الاختيار 3"، تلك الديانة المستحدَثة، المفروضة، بقرار رئاسي، من جنرالٍ يهيمن على السلطة، بالقوة، قرّر أن يترك كل شيء ويتفرّغ للدعوة إلى هذه العقيدة الجديدة، ويبشّر بها ويدافع عنها في كل مكان.