مُنتدى تانا... وحلم نجـيب محفوظ

مُنتدى تانا... وحلم نجـيب محفوظ

22 أكتوبر 2022
+ الخط -

(1)

من نصوص أحلام الروائي نجيب محفوظ، والتي نشرت بعد رحيله في كتاب بعنوان "أحلام فترة النقاهة"، صدر في عام 2015، جاء نص أحد أحلامه كما يلي: "رأيتني من المقرّبين مِن حاكم الجنوب في مصر، وكان حديثه يدور حول الجماعات المتناحرة عَلى شاطئ النّيلِ، ويوماً قال لي إنّ النّيل جاءه في المنام، وقال له إنّه يعهد إليه بتوحيد الجمـاعات المتناحرة في جماعة واحدة متعاونة، وأن يكون ملكاً عليها يقوم بتوزيع المياه بينها بالعدل". وأشار الناشر إلى أن الكتاب حوى خلاصة تجربة محفوظ وجوهر أدبه وفلسفته وإبداعه الرفيع وإنسانيته السّامية، متمنّياً أن يستمتع القرّاء بقراءتها، وأن ينهلوا من حكمتها ومعانيها وأبعادها. .. تُرى، هل من حكمة يمكن أن يقرأها المعنيون بمياه نهر النيل عن حلم نجيب محفوظ أعلاه؟

(2)

بمبادرة إثيوبية، رعاها رئيس الوزراء الراحل ميليس زيناوي في عام 2009، بادر معهد دراسات الأمن والسلم التابع لجامعة أديس أبابا، باقتراح لقاء سـنوي لبحث استدامة السلام في القارّة الأفريقية، وذلك في إطار تعزيز إعلان طرابلس الصادر عن قمة استثنائية للاتحاد الأفريقي، عقدت في ليبيا ذلك العام. في 15 و16 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي، التأمت الدورة العاشرة لـ"منتدى تانا السّامي للأمن في أفريقيا"، والذي يسمّى اختصارا "منتدى تانا"، باستضافة دائمة من الحكومة الإثيوبية في مدينة بحر دار على شواطئ بحيرة تانا، التي ينبع منها نهر النيل الأزرق، الرافد الرئيسي لنهر النيل. ليس بعيداً من منابع النيل الأزرق، أقامت إثيوبيا مشروعها المسمّى "سـدّ النهضة العظيم" المثير للجدل والخلاف مع شريكيها في هذا المورد المائي الهام. بين الشركاء الثلاثة، إثيوبيا والسودان ومصر، خلاف يشبه الخصام، واستعصاء في التفاوض يشبه الجمود، بشأن فنيات سدّ النهضة، إن كان سيلحق أضراراً بالسودان أو بمصر. التفاوض بين الأطراف الثلاثة معلق، فيما إثيوبيا ماضية في تنفيذ إنشاءات السَّـد.

(3)

بدأت أعمال الدورة العاشرة لمنتدى تانا بمحور رئيسي عن الأمن والسلم في القارّة الأفريقية. ومع أن جائحة كورونا آخذة في التراجع، إلا أنّ المنتدى أعطى أهمية لجهـود التصدّي لها، وذلك لما شكّلته من إشارات خطيرة تمثلت في عدم المساواة والتفاضل على المستوى العالمي في معالجات الجائحة. يمثل التداول بشأن مهدّدات الأمن والسلم في القارّة الأفريقية محوراً مهماً في منتدى تانا، إذ باتت معالم الفشل واضحة للعيان، في تراجع مؤشّرات الديمقراطية في أنحاء بلدان القارّة، وفي قصور الأداء المؤسّسي للحكومات وضعفه، وتنامي الخلافات والصراعات الإثنية.

للسودان من المشكلات الأمنية ما يؤهله ليكون عنصراً من جملة عناصر تورّطت، بصورة غير مباشرة، في خلخلة الأمن والاستقرار في إقليمه

يضاف إلى ذلك كله تفاقم أزمة الأمن الغذائي من تأثير الحروب الدائرة. في نظرة عامة، يتبدّى عجز معظم حكومات البلدان الأفريقية عن التصدّي الناجز لحلحلة مثل هذه المعضلات. من الواضح أن حكوماتٍ عديدة في القارّة الأفريقية تعاني من ويلات الاضطرابات والتدخلات العسكرية في أوضاعها الداخلية، وما يقع فيها من انقلابات يزيد الطين بلة. صارت قضايا الأمن والسلم في أنحاء القارّة، من الأولويات التي تحتاج إعادة نظرٍ معمّق يستصحب تقييم أدوار النّخب الحاكمة، وقدرات اللاعبين في الساحات السياسية الأفريقية. لن تكون الحلول على المستوى الوطني وحده، بل تجاوزه لتتم المعالجات على المستوى الاقليمي، بل وعلى المستوى الدولي أيضا. يدخل الاتحاد الأفريقي حاليا مرحلة اختبار حقيقي لمصداقيته وفعاليته، بل وجدواه.

(4)

لو كانت تلك هي الملفات التي سينظر فيها المشاركون في منتدى تانا، فكيف لنا أن نقرأ مشاركة السودان في هذا المنتدى الذي قصد منه تفعيل مبادئ أقرّها الاتحاد الأفريقي منذ أكثر من عقد؟ لعلّ أولى الملاحظات أن منتدى تأنا يعتبر من الأنشطة المتفرعة بصورة غير مباشرة من الاتحاد الأفريقي، وهو المنظمة الإقليمية التي جمّدت عضوية السودان، بعد وقوع انقلاب الجنرالات، فهل يتطلع السودان إلى منصّة يتودّد عبرها للاتحاد الأفريقي، بالأسلوب ذاته الذي استغل فيه منصة منظمة الإيقاد التي يترأسها حالياً، في محاولة للتحلّل من عقوبة التجميد؟

وفي ملاحظة شكلية محضة، لكنها تستبطن رسـالةً ما، إذ إنّ قائد الانقلاب في السّودان هو جنرالٌ يرتدى دائما أزياء عسكرية مموَّهة، من قبعة الرأس إلى الحذاء العسكري الثقيل، لكنه، هذه المرّة، جاء إلى منتدى تانا مشاركاً، وقـد تزيّا بلباسٍ مدني في كامل أناقته. هل يفهم الاتحاد الأفريقي أنّ الرّجل عازم على التخلي عن بزّته الانقلابية، كما سبق أن أعلن عن نية قواته المسلحة عن الانسحاب من المشهد السياسي في السودان، وأن حكماً مدنيا سينشأ في البلاد؟

معالم الفشل واضحة للعيان، في تراجع مؤشّرات الديمقراطية في أنحاء بلدان القارّة الأفريقية، وفي قصور الأداء المؤسّسي للحكومات وضعفه

بادر الاتحاد الأفريقي، برغم استضعافه الماثل، بتجميد عضوية السودان فور انقلاب جنرالاته في 25 أكتوبر/ تشرين الأول 2021. كما أن مسؤوليه يدركون كيف أضعفت الانقلابات من قدراته وفعاليته السياسية. أليس انقلاب الجنرالات في السودان هو الفيروس الذي استشرى ووصل إلى بلدانٍ غرب القارّة الأفريقية؟ أليس هو خالد الذي بدأ التثاؤب فتبعه عمرو، على قول المعرّي: تثاءب عَمْروٌ إذ تثاءبَ خالدُ/ بعدوى فما أعدتنيَ الثؤباءُ.

ها نحن نرى بعد تثاؤب جنرالات السودان كيف تثاءب جنرالات كُثر في غرب القارّة السمراء، في أكثر من أربع دول.

(5)

ذلك منتدى خصّصه من بادر بعقده إلى مراجعة أوّل ما يراجع واقع السّـلم والأمن في القارّة السمراء، غير أن نظرة عجلى ترينا أن للسودان من المشكلات الأمنية ما يؤهله ليكون عنصراً من جملة عناصر تورّطت، بصورة غير مباشرة، في خلخلة الأمن والاستقرار في إقليمه. ليس مقام الحديث هنا عمّن أخطأ أو من أصاب. ولكن لك أن تجيء إلى محفل سياسي مثل منتدى تانا، إمّا لتطرح شـكواك فتجد من يعينك على الحل، أو تبادر بطرح حلولٍ تساعد الآخرين المختلفين على تجاوز خلافاتهم، فتساهم في استدامة الاستقرار، وهو من أسمى أهداف ذلك المنتدى. غير ذلك، لن تخرج المشاركة فيه عن كونها جهداً مراسمياً ومجاملة محضة.

(6)

لعلّ السودان ومن مثلوه في ذلك المحفل الأفريقي هم أقل الناجحين حظاً في اختبار المشاركة. لم يبقَ لجنرال السودان في منتدى تانا إلا اهتبال سانحة على هامش الجلسات، ليناقـش مع مضيفه الإثيوبي مباشرة ما حمل من ملفات شـائكة. أمّا وقد تفضل المضيف فاستمع وناقش، فإننا لم نسمع أو نقرأ بياناً مشتركاً عن تلك اللقاءات. وحده إعلام الجنرالات من حدّث في الخرطوم عن قضايا ناقشها الرّجلان، عن سـدِّ النهضة والخلاف الحدودي والصراع الداخلي في إثيوبيا الذي أفرز مشكلة اللاجئين من تيغراي الذين نزحوا جرّاء القتال من إثيوبيا إلى شرقي السودان. مجمل ما صرّح به الجنرال رئيس مجلس السـيادة الانتقالي في السودان، أن الجانبين اتفقا على تواصل مناقشة كلّ القضايا العالقة بينهما بالطرق السلمية وبالحوار.

.. نقطة، سطر جديد. ولكن لا جديد بشأن خلاف الحدود أو عن سـدِّ النهضة. .. ويبقى حلم نجيب محفوظ عن نهر النيل حُلماً من أضغاث أحلام الروائي الكبير.