موقعة نهر إبراهيم
تدخل مجموعة من الشبان محلاً تجارياً في بلدة نهر إبراهيم في محافظة جبل لبنان، ويهاجمون عاملَين فيه، وهما شابّان صغيرا السن، ظنّاً منهم أنهما سوريان. يضربونهما بالعصي والسكاكين كما يُرى في الفيديو الذي جرى تداوله على نطاق واسع، والذي يُظهر همجية الهجوم وبدائيته، وانفلات العنف من كل عقالٍ أو روادع أخلاقية.
يفعلون ذلك بحسب رئيس البلدية تطوّعاً، فهم، كما قال، لا ينتمون إلى حزب أو جماعة، وهدفهم وحسب مساعدة رجال الشرطة على تطبيق "القانون" القاضي بمنع السوريين من العمل في المحلات أو التجوال بعد الساعة التاسعة ليلاً. يقول رئيس البلدية ذلك، كأن من طبيعة الأشياء في الدول والمجتمعات أن يُحظر تجوال المقيمين الأجانب بعد ساعة معينة أو يُمنعوا من العمل؛ فإذا لم يرعووا ولم يجدوا من يردعهم من رجال شرطة لنقصٍ في العدد، فعلى سكّان المنطقة تطبيق القانون بأيديهم. وليس في ذلك من عنصريةٍ وفق منطوق رئيس البلدية المسكوت عنه. وحتى عندما يتكشّف الأمر عن هجوم لبنانيين على لبنانيين بالخطأ، فإنه لا يُعاد النظر في "القانون" ذاته الذي أباح لمجموعةٍ هائجةٍ من الشبّان تطبيق القانون بأيديهم لمجرّد الاشتباه. المؤسف أن هذا يحدُث في دولة عضو في الأمم المتحدة، وفي عام 2023 وليس في بولندا في أربعينيات القرن الماضي، وفي بلدة صغيرة، مجاورة للبحر، جميلة، بعدد سكّان لا يتجاوز خمسة آلاف نسمة، وتصلح لتصوير فيلم سينمائي عن جمال البلدات الصغيرة وبساطة العلاقات بين سكّانها.
ما حدث في بلدة نهر إبراهيم ليس حادثاً منفرداً للأسف. هناك خطاب كراهيةٍ يتوحّش يعلو على الأصوات والخطابات الأخرى داخل لبنان، فالمطلوب ترحيل السوريين أو دفعهم إلى المغادرة، إما خوفاً من حملات عنفٍ عشوائيةٍ قد تستهدفهم وعائلاتهم، أورضوخاً لقوانين عنصرية، وسط تواطؤ إقليمي يتعامل مع المسألة السورية باعتبارها شأناً يخصّ شعباً بعينه، يتحول إلى عبءٍ على الجوار في حال خروجه من بلده، ومحلّ غضب وانتقام من النظام إذا عاد إليه.
طبعاً، يمكن فهم الضغوط التي يتعرّض لها اقتصاد الدول المضيفة للاجئين السوريين، خصوصاً في لبنان، ولكنّ هناك تضخيماً للعبء الذي تتحمّله الدولة هناك، فسوريون كثيرون موجودون قبل الثورة على نظام الأسد، فالعمالة السورية في لبنان ليست وليدة اليوم، وهناك من يتنقل بين البلدين ولا مشكلة لديه مع السلطات السورية، وهناك من هربوا من سورية للنجاة بحياتهم. وهناك من تنطبق عليه صفة اللاجئ ومن لا تنطبق عليه، لكنهم في أي حال ليسوا السبب في انهيار الليرة والاقتصاد والبطالة والكهرباء وانهيار الإجماع الوطني وعسر التوصل إلى توافق على رئيس جديد للبلاد، بل إنهم، أي السوريين، لاجئين كانوا أو لا، الحلقة الأضعف في المعادلة كلها، فليس ثمّة لاجئ في العالم لا تراوده الرغبة في العودة إلى بلاده حتى وإن كان بلد اللجوء ثرياً وأوضاعه جيدة فيه. لذلك، لا يمكن فهم ولا تفهّم تحميل اللاجئين السوريين مسؤولية الانهيار الشامل في لبنان، وعزلهم عن الأسباب التي أدّت إلى لجوئهم، وهي معروفة في حالة سورية، ومن ثم الضغط لترحيلهم قسرياً. وفي ظن من يفعل ذلك أنه يحلّ مشكلته الاقتصادية، وهي مستفحلة في وجود اللاجئين وفي غيابهم، ويحجز له مقعداً في المنطقة بعد الاتفاق السعودي الإيراني الذي فتح الباب أوسع من قبل لإعادة تأهيل النظام السوري من دون شروط مفترضة، ومن بينها توفير ضماناتٍ ملزمةٍ بالعودة الآمنة والطوعية للاجئين إلى وطنهم، وعدم ملاحقتهم أو الانتقام منهم أو ذويهم. وهو ما لم تلتزمه دمشق، فما زال مصير من أضطرّوا إلى العودة قسراً من لبنان إلى سورية غامضاً، وهو ما تحذّر منه مفوضية اللاجئين الدولية، فليس ثمّة خلاف على ضرورة عودة اللاجئين إلى ديارهم في نهاية المطاف، ولكن الخلاف هو حول "متى" و"كيف" يعودون، فإذا كانت حيواتهم مهدّدة، يغدو دفعهم إلى العودة مشاركة في القتل أو التعذيب الذي قد يتعرّضون له، وهذا ما لا يُعنى به، للأسف، سكان بلدة نهر إبراهيم الصغيرة والوادعة، وجوقة تأجيج خطاب الكراهية الذي يُرجِعون كل مشكلات لبنان إلى لاجئين، ما اضطرّوا إلى الخروج من بلادهم وبلداتهم وقراهم لولا خوفهم على حيواتهم وأولادهم.