إيران من "حرب الفراولة" إلى "البينغ بونغ"
في فيلمه "حرب الفراولة" (1994)، يقارب خيري بشارة، صاحب التحفة السينمائية "الطوق والإسورة"، مفهوم السعادة على نحو مختلف، ما يقتضي منه اختباره، وهو يتطلّب (في الفيلم) تغيير قواعد اللعبة، والعبث بما هو قارّ ونهائي في حياة الآخرين، أو سلب الآخرين حياتهم ليحظى القوي والثري بالسعادة، التي تظل رغم ذلك نائية.
المقال سياسي، ولكن لا بأس أن نعرف أنه يدور حول فراولة (يسرا)، الأرملة الفقيرة، التي تبيع الورد في الشوارع لتعيل نجلها الوحيد، وحمامة (محمود حميدة) بائع التفّاح، الفقير أيضاً، لكن الغني بحبّه لفراولة وحبّها له، وكيف أن حياتهما تنقلب رأساً على عقب عندما يدخل أحد الأثرياء حياتهما، بل يسطو عليهما. يفعل ذلك، بتغيير قواعد اللعبة؛ الفقير قد يصبح غنياً إذا خضع لإرادة الغني بإدخال تغييرات في حياته، فيظنّ الفقير أن المال سيحقّق له السعادة، ويظنّ الغني أن التغيير باهظ الثمن قد يجلبها إليه أيضاً. يقترح الغني (سامي العدل) على حمامة أن يرافقه في حياته، ولا يعصي له أمراً، في مقابل شقّةً ومبلغ كبير من المال. ومع بدء اللعبة تتغيّر حياة حمامة وفراولة تماماً، ويخسران ولا يربح الثري، فمن لا يتحكّم في قراره وحياته سيكون فريسةً سهلةً لمن يدفع (أو الأقوى).
على نحو ما، يبدو الفيلم تنويعاً على الفيلم الأميركي "عرض بذيء"، الذي أنتج قبله (1993)، وهو من بطولة روبرت ريدفورد (الثري) وديمي مور (لنقل إنها فراولة) في بداية صعودها الجماهيري، ووودي هارلسون (ولنقل إنه حمامة)؛ ثري يُعجَب بامرأة جميلة فيقترح على الزوج الذي يعاني وزوجته من ضائقة مالية خانقة "استعارة" زوجته لليلة واحدة في مقابل مليون دولار، وعندما يوافقان بعد تردّد تبدأ حياتهما بالتفكّك، فأيّ قواعدَ جديدةٍ للعبة لا تقوم إلا على تفكيك سابقاتها وإنتاج معادلات جديدة، قاهرة، تتعذّر معها العودة إلى ما قبلها، والسعادة مفهوم غامض، لا يُمسَك ولا يُحكَم بعنصر (المال) من دون غيره.
هل قلتُ "لعبة" فيما سبق؟ ... نعم، فلنتحدّث إذاً عن لعبة البينغ بونغ (كرة الطاولة)، التي مهّدت لتطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة والصين. ... كانت السبعينيات ذروة الحرب الباردة بين المعسكرين الغربي والشرقي، وكانت الولايات المتحدة في عهد نيكسون تطوّر قواعدَ اللعبة أو تتحكّم فيها أو تأمل بذلك لهزيمة الاتحاد السوفييتي، وكان مستشار الأمن القومي في البيت الأبيض، هنري كيسنجر، عندما أُقيمت البطولة الدولية لكرة الطاولة في اليابان (1971)، وبدت الأمور محكومةٌ بالصدفة. يصافح اللاعب الصيني تشوانغ تسه دونغ نظيره الأميركي غيل كوهين، وتتطوّر المصافحة إلى تصريح الفريق الأميركي برغبته في زيارة الصين بعد انتهاء البطولة، فيعلن الزعيم الصيني ماو تسي تونغ موافقته فوراً، وما هو إلا أسبوع حتى يكون رئيس الوزراء الصيني شو إن لاي مستقبلاً الفريق الأميركي في قاعة الشعب الكُبرى في بكّين، ولا أعرف معنى إصرار بعض وسائل الإعلام على لفظها "بيجين". كأن هناك فرقاً؟ ... ويقول لأعضاء الفريق إنكم فتحتم باباً جديداً للعلاقات بين شعبي البلدين.
لنقل إننا نلعب كرة الطاولة الآن. بكين ضربت الكرة الصغيرة إلى المربع الصغير المخصّص للخصم، وعلى اللاعب الأميركي أن يردّ الكرة، وهكذا. يزور كيسنجر (توفي العام الماضي عن مائة عام) الصين سرّاً، ولاحقاً تلبيةً لدعوة من رئيس الوزراء الصيني، وصولاً إلى إعلان شنغهاي (1972)، الذي فتح الباب لتطبيع العلاقات بين البلدين بعد قطيعة استمرّت نحو عقدَين.
ما فعلته دبلوماسية البيغ بونغ هنا أنها عزلت الصين عن الاتحاد السوفييتي، فكّكت العلاقة بين فراولة وحمامة في "حرب الفراولة"، وبدلاً من وقوف الطرفَين معاً ضدّ المعسكر الغربي، دخلا صراعاً صامتاً بين نموذجَين لتحقيق الاشتراكية في المعسكر الشرقي السعيد.
ما علاقة ذلك بإيران؟ ... هناك قواعد لعبة جديدة تُبنى على خجل. أنت تضربني فأردّ عليك ضمن قواعد محدّدة تقرّرها واشنطن، وثمّة نصف نصر ونصف هزيمة يحقّقهما الطرفان، وإذا استقرّت المعادلة الجديدة فستُعزل إيران، بصفقة من نوع ما معها، عن دول المشرق العربي، وإذا تحقق هذا فإن العداء سيتحول صداقةً صامتةً ربّما، وفراولة ستخسر كلّ شيء.