موسم الهجرة إلى المجهول
هل يعقل أن ما تناولته روايات خيالية وأفلام كوميدية قد يحدُث على أرض الواقع؛ فهناك تندّرات أن الفتيات في قطاع غزة المحاصر ذي الـ365 كيلومتراً مربعاً، والذي يسجّل أعلى كثافة سكانية في العالم قياساً لمساحته، سوف يفرغ من الرجال الذين هم في سن الشباب، وستبدأ حروب هزلية بطابع نسوي للظفر بالرجل الأخير المتبقّي في المنطقة، وذلك بسبب هجرة آلاف الشبان من القطاع خلال الشهرين الأخيرين، وخروجهم نحو المجهول، أو نحو الأحلام التي لم تستطع بلادُهم تحقيقها لهم.
شهدت أعداد الشبان المغادرين القطاع، في الشهرين الأخيرين، زيادة ملحوظة قياساً لهجرة قرابة 860.632 هاجروا ما بين عام 2007 ونهاية عام 2021، وسجلت بعض المناطق في القطاع، مثل القرى الزراعية المتاخمة للحدود الشمالية للقطاع حركة نزوح طوعية وغير طبيعية من الشبان نحو معبر رفح، متنفّس القطاع الوحيد باتجاه الجانب الآخر من العالم، العالم الذي لم يظفر معظم أبناء غزّة برؤيته، بسبب فقرهم وعدم امتلاكهم رفاهية السفر للسياحة وخروج أغلبيتهم الفقيرة بحثاً عن لقمة العيش سبباً أول بعد معاناة وانتظار طويل من أجل السفر.
بقراءة قصيرة وسريعة لما يجري على أرض الواقع، تكتشف أن الأرقام المقلقة للاتجاه إلى الهجرة أو التهجير المنظّم لشبان قطاع غزة ما هو إلا تنفيذ لمخططات إسرائيل التي حاولت، قدر استطاعتها، الاستفادة من الحصار الذي ضربته على القطاع منذ العام 2007، ومن خلال خنق القطاع اقتصاديا، بحيث أنها لم تكن توفّر من حينها لسكّان القطاع الذين يزيدون عن مليوني نسمة إلا أقل القليل من مستلزمات العيش. ومقابل ذلك، لم تتوقّف إسرائيل عن محاولات تسهيل هجرة الشبان الفلسطينيين من غزّة إلى الخارج والتشجيع عليها، وعدم إتاحة عودتهم عكسياً، حيث جعلت من خروج معظمهم مشروطا بعدم العودة، تحت حجج وذرائع واهية، وتمريرا لمؤامرات خفية مع بعض الحكومات الخارجية، لتسهيل إفراغ القطاع من الشبان على غرار ما قامت به في 1967؛ وحيث جرى ترحيل الشبان إلى مصر، ولم يبق وقتها في القطاع سوى الكهول والنساء والأطفال.
الملاحظ أن موسم الهجرة النشط من غزّة يعد موسماً مرتّباً ومنظّماً، إذ يشهد بحر إيجة نشاطاً ملاحياً خلال شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام بزيادة ملحوظة لمعدّل الهجرة العالمية من حدود تركيا نحو اليونان خصوصاً، والتي تعدّ نقطة الانطلاق نحو أوروبا. وفيما ينجح كثيرون في عبور هذا البحر بتغاضٍ وإغماض عين من خفر سواحل الدولتين، فإن الغرق يكون من نصيب أعدادٍ ليست هينة لمهاجرين لم يستطعوا توفير مالٍ كافٍ من أجل اختيار وسيلة عبور أكثر أمنا، وركوبهم البحر بقارب مطّاطي يطلق عليه اسم "البالم" يحمل أعداداً مضاعفة من الركّاب، ويتلفه المهرّبون حين يقترب من الشواطئ اليونانية لاستدراج عطف خفر السواحل نحو المهاجرين الذين ينجو منهم من يجيد السباحة ومن ينتشله خفر السواحل، فيما يغرق البقية، وأغلبهم من النساء والأطفال، ومن لم يتعلّموا السباحة في بحر غزّة.
هذه الهجرة الموجعة بلا هدف بائن، وحيث لا تعرف أي حظ أو مستقبل ينتظر أبناءك، لا تستطيع منعها كأب مكلوم أمام انعدام سبل الحياة في القطاع، وارتفاع نسبة الفقر فيه إلى أعلى مستوياتها. ولا تملك سوى أن تذرف الدموع وأنت تحتضن ابنك أمام بوّابة معبر رفح، وربما للمرّة الأخيرة، وأنت لا تدرك أن خروج ابنك من وطنه في هذا الوضع المؤلم ليس إلا تنفيذا لمخطّط ضخم، ينفّذ منذ سنوات، عبر خنق القطاع وبث الفرقة بين الفصائل الفلسطينية وإنهاك سكّانه نفسياً واجتماعياً واقتصادياً بضربات عدوانية متتالية، بدءا من العام 2008، بغرض الإبقاء على عمليّة إخضاع الفلسطينيّين لإملاءات إسرائيل المستقبلية، والتي لا تخدم سوى طموحها بتعميق وجودها أكثر، ضاربة عرض الحائط بالطموح المصري بالاستفادة من موقع القطاع الاستراتيجي وضمّه للسيادة المصرية، وضاربة عرض الحائط بآمال سكان القطاع بحياة أفضل من دون هجرة أولادهم منه نحو المجهول.