موت النظام العربي
منذ ولادته، صبغت الصفة القومية النظام العربي، وهي سمة تميّزه عن النظم الإقليمية الأخرى، وجعلته يتمتّع بدرجة عالية من التماسك الثقافي واللغوي والاجتماعي، كان من المفترض لهذه السمات أن تمنحه تماسكاً سياسياً واقتصادياً وعسكرياً. لكن التناقض بين سلطات الدول العربية وما يمكن أن يبنى عليه، جعل النظام العربي إطاراً شكلياً أخفى صراعاتٍ وصلت إلى صدامات مسلّحة، وإذا قورِن بتجمّعات أخرى لا جامع لغوياً بينها، ولا تقارب اجتماعياً، نجد أنها استطاعت إنجاز تقدّم على صعيد التعاون السياسي والاقتصادي الذي لا يُقارن بما وصلت إلى العلاقات العربية ـ العربية من صراعات أوصلت الواقع العربي الجماعي إلى نوع من انحلال العلاقة. وعقد القمم العربية لا يجعل هذه الصورة أفضل، خصوصاً أن المواطنين العرب قد فقدوا الأمل بهذه المؤسّسة منذ عقود.
السمات العامة المشتركة التي تتمتع بها كل الدول العربية لا تمنع وجود سمات جهوية ووطنية خاصة تميز بعض بلدانها، لكن هذه السمات تعمل على إثراء الانتماء، لا على إضعافه. وقد تتوافر بعض هذه السمات في نظم أخرى بدرجاتٍ متفاوتة، ولكنها بالتأكيد لا توجد في أي نظام بالدرجة نفسها التي تتوافر بها في النظام العربي، ومنذ حداثة ولادته، وحداثة ولادة أطرافه، حيث لا يمكن الحديث عن نظام إلا بوجود أطرافٍ مستقلّةٍ تعمل داخله. إلا أنها تاريخياً تميّزت بشبكة معقّدة من التنظيمات الحكومية والشعبية السياسية وغير السياسية. ومن بين تلك المنظمات جامعة الدول العربية التي حملت منذ ولادتها ما عانى منه النظام العربي باعتبارها رمزاً للنظام. ومن هنا، جمع النظام العربي بين سمتي القومية والإقليمية. ويمثل هذا الجمع إطاراً مفيداً لفهم شبكة العلاقات المعقدة في المنطقة، التي تتم أحياناً بشكل رسمي بين حكوماتٍ تتنازع وتتصارع ويشكو بعضها بعضاً إلى الهيئات الدولية، وأحياناً أخرى بشكلٍ غير رسمي على مستوى شعوب لها المشاعر والتطلعات والآمال نفسها، وهناك قوى وتيارات تجد مصالحها في تشجيع السيادات القُطرية، وأخرى تؤكّد أن لا مستقبل حقيقياً لنا جميعاً إلا في إطار الوحدة العربية. فعلى مستوى الحكومات وتفاعلاتها، يشكّل النظام العربي إطاراً تفاعلياً مميزاً بين الدول العربية، يفترض أنه يتسم بنمطية وكثافة التفاعلات بما يجعل التغيير في جزء منه يؤثر في بقية الأجزاء (وهذا ما عرفناه بوضوح مع ثورات الربيع العربي التي هزّت المنطقة)، وبما يؤدّي أن يحمل ضمناً داخلياً وخارجياً بهذا النظام كنمط مميّز.
التناقض بين سلطات الدول العربية وما يمكن أن يبنى عليه، جعل النظام العربي إطاراً شكلياً أخفى صراعاتٍ وصلت إلى صدامات مسلّحة
ثنائية النظام العربي تميّزه عن غيره من الأنظمة الإقليمية، لكونه نظامين في الوقت ذاته، أحدهما نظام دولاني، وثانيهما نظام مجتمعي عربي ينبثق من وجود هوية أصلية. لذلك لا يمكن إقامة نظام جماعي في المنطقة يتجاوز هويتها. إذ إن الهوية الأصلية لا تتأسّس على مفاوضاتٍ ولا تنتهي بتغيير بنية القوى في نظام معين وتحوله إلى نظام آخر. فإن التجمّعات التي طُرحت بدائل للمنطقة، لا تستطيع إلغاء هذه الهوية، ولا أن تقيم بديلاً منها في شكل انتماء ثقافي حضاري مزيف. فالتجمعات البديلة التي طُرحت، هي صيغة لتجاوز هذه الهوية القومية، وصياغتها على أسس مصلحية، تربط بين الدول المتجاورة بعيداً عن هويتها القومية، وفي مواجهة هذه الهوية.
فالصفة القومية لا يمكن نكرانها أو تجاوزها بالنسبة إلى النظام العربي، ولكن هذه الصفة لا تعني بالضرورة أن يكون أداء النظام أكثر تماسكاً، سعياً وراء أهداف موحدة. أو أن تعمل هذه الصفة على تخفيف حدة الخلافات بين أطراف النظام، التزاماً بالانتماء الواحد. على العكس من ذلك، فقد عملت هذه الصفة، في ظل مفاهيم الوصاية التي سادت عند بعض الأنظمة التي اعتبرت نفسها حامية القومية إلى تفتيت هذا النظام، وزجّه في صراعات متنوعة، فالقومية العربية، تياراً فكرياً، وحركة سياسية، عاصرت فترات من المدّ والجزر، ولكنها بقيت دائماً منذ تبلورها كقوة كامنة تصارع واقع التجزئة القائم على أساس دويلات قطرية. وهذا الصراع بين تلك القوة الكامنة وواقع التجزئة السائد، الذي حاول تكريس نفسه من خلال مفهومي السيادة والمساواة المعترف بهما للدول في القانون الدولي، يزيد من حدّة التوترات داخل النظام دون أن ينفي وجوده. أي إن النظام العربي... نظام إقليمي قومي، لأنه يتميز بوجود نمط خاص من التفاعلات بين عناصره، ولو كان الطابع الصراعي لهذه التفاعلات غالباً على طابعها التعاوني. ومن هنا يشكّل النظام العربي شبكة معقّدة من التفاعلات تؤثر تأثيراً عميقاً وباتجاهات متباينة على كل طرفٍ من أطرافه. وتفرض هذه الشبكة المعقدة من التفاعلات على أطراف النظام في حالات معينة أن تأخذ بالاعتبار في قرارها الداخلي هذه الاعتبارات، التي تصبح إطاراً عاماً يصعب تجاهله عند وضع السياسات والقرارات الداخلية والخارجية.
مات النظام العربي، رغم كل المحاولات الرسمية الفاشلة في إنعاش جثته الهامدة
فعالية أي نظام ترتبط بالتوجّهات التكاملية التي يسعى لتحقيقها، وإنجازاته محكومة بالتوجّه القصدي لمجموعة من الدول لبناء روابط وثيقة فيما بينها، انطلاقاً من شعور مشترك بمهمة أو مسؤولية متبادَلة حيال إنجاز ما في المجالات الأمنية أو الثقافية أو الاقتصادية أو كلها معاً. ليس النظام العربي حاصلاً لجمع الخصائص الداخلية لنظم الحكم في البلاد التي تشكّل هذا النظام، فهناك آليات خاصة تنشأ بمجرّد اجتماع عدد معين من الدول على تشكيل رابطة في ما بينها، وهذه الآليات مستقلّة إلى حد ما عن الأسس الاجتماعية والطبقية والأيديولوجية للنظم الداخلية في هذه الدول. والنظام العربي تشكّل وتطوّر تحت تأثير طائفة من التحوّلات الأيديولوجية المميزة لنظم حكم معينة، على أن هذا التأثير ظلّ هامشياً إلى حد ما، ومحصوراً بمجمل التمايزات الأيديولوجية التي يدفع إليها العصر نفسه أو ذاتية التفاعلات الإقليمية في سياق دولي بعينه. وظل النظام العربي طوال تاريخه يعترف ضمناً بالتعدّدية السياسية والأيديولوجية التي ميّزت الخريطة السياسية العربية الفعلية منذ نشأة النظام. وإذا كان هذا النظام يعترف بالتعدّدية السياسية على المستوى الرسمي، فإن هذا الاعتراف قام لتبرير التحلّل من الالتزام الذي يخدم الاتجاهات الأخرى، خصوصاً في ظل الصيغة غير الملزمة التي صاغها النظام في إطاره المؤسّسي. وهي ما ساهم في شلل النظام في ظل الانقسامات التي سادت ردحاً طويلاً من عمر النظام. ولكنها في المقابل على المستوى غير الرسمي، أفرزت أشكالاً متعدّدة من التفاعلات، التي يصعب قياسها لعدم تمظهرها بشكل مؤسّسي أغلب الأحيان.
اليوم، وفي ظل حالة الضعف الشامل التي تعاني منها المنطقة، نستطيع القول إن النظام العربي قد مات، رغم كل المحاولات الرسمية الفاشلة في إنعاش جثته الهامدة.