موازنة تونس لسنة 2024... التداين المشطّ والإمعان في الجباية
انتهى مجلس النوّاب التونسي من مناقشة موازنة الدولة، بعد أن دامت المناقشات 23 يوما، وصادق على قانون المالية لسنة 2024 في الآجال القانونية، وذلك يوم 10 ديسمبر/ كانون الأول الجاري، وتولى الرئيس قيس سعيّد الختم يوما واحدا بعد ذلك التاريخ، ليتمّ نشره في جريدة الرائد الرسمي التونسي تحت عنوان "قانون عدد 13 لسنة 2023 مؤرّخ في 11 ديسمبر 2023 يتعلق بقانون المالية لسنة 2024" في 184 صفحة. ويتكوّن نص القانون من 24 صفحة، أما بقية الصفحات فجداول إحصائية وبيانات مالية وتفصيلات محاسبية. استيفاء قانون المالية الجديد شرط الآجال القانونية والجوانب الشكلية لا يمكن أن يحجُب بعض الحقائق الجانبية الهامة التي قد تختفي من الذاكرة الجماعية للتونسيين، ويلفّها سريعا نسيان السياسيين. فهذا القانون هو الثالث الذي ختمه الرئيس سعيّد، والختم هو جزء من القانون وقبولٌ به وتأييدٌ له، بعد أن وضعه فريق حكمه، وقد سبقه قانونا المالية لسنتي 2022 و2023، وهذا يعني أن السياسة المالية للدولة وما يصاحبها من إجراءاتٍ جبائيةٍ ومديونيةٍ مشطّة منذ 25 يوليو/ تموز 2021، مرجعها ومصدر شرعيتها رئيس الدولة، مستندا في ذلك إلى الفصل التاسع من الأمر الرئاسي 117 لسنة 2021، وقد جاء فيه "يتولّى رئيس الجمهورية تمثيل الدولة ويضبط سياستها العامة واختياراتها الأساسية"، وإلى الفصلين عدد 100 و111 من دستور 2022 من أن "رئيس الجمهورية يضبط السياسة العامة للدولة ويحدّد اختياراتها الأساسية"، و"تسهر الحكومة على تنفيذ السياسة العامة للدولة طبق التوجهات والاختيارات التي يضبطها رئيس الجمهورية".
وفي ظلّ غياب مشروع وتصور رئاسي للمسألتين الاقتصادية والمالية، والاقتصار على فكرتي الشركات الأهلية والصلح الجزائي المتعثرتين إلى حدّ الفشل، رغم النفخ المالي والتشريعي والإعلامي في مشاريع طوباوية، فإن بطلة الموازنة التونسية وقانون المالية، التي تركت بصماتها واضحة على كل الموازنات بعد "25 جويلية" هي سهام البوغديري، المرأة التي قضت 28 سنة من عمرها المهني بالإدارة العامة للدراسات والتشريع الجبائي في وزارة المالية قبل أن يصطفيها الرئيس قيس سعيّد لتكون على رأس الوزارة نفسها في 10 أكتوبر/ تشرين الأول من السنة نفسها، ويكلفها بالإشراف على وزارة الاقتصاد والتخطيط بالنيابة بعد إقالة الوزير المعني يوم 17 أكتوبر 2023 على خلفية تصريحاته أمام البرلمان إن لا مناص من الذهاب إلى صندوق النقد الدولي، لتجاوز تونس أزمتها المالية. أما دور مجلس نواب الشعب، الذي باشر أشغاله يوم 13 مارس/ آذار من السنة الجارية، فلا يتجاوز التجميل ببعض الفصول الإضافية، من دون المسّ بما تسمّيها السلطة (الوظيفة) التنفيذية التوازنات المالية للدولة، التي باتت تتمتّع بنوع من الدكتاتورية لا تقبل التغيير، فتمارس سطوتها وهيمنتها على الشعب، وعلى نوّابه، وعلى كلّ من يدّعي تمثيليته لصالح شعار "المصلحة العليا للدولة". انعكست تلك الدكتاتورية على التصويت على قانون المالية، فصوّت لصالحه 116 نائبا وتحفّظ عليه 26 ورفضه أربعة، من دون أن تكون لتلك الأرقام دلالات سياسية، فجميع أعضاء البرلمان الذين سُمح لهم بإضافة بعض الفصول في القانون لم تغيّر من جوهر الموازنة، ينسبون أنفسهم إلى شرعية الرئيس وجمهورية 25 جويلية واختياراتها الاقتصادية والمالية المترجمة في قوانين المالية، وهي شرعيةٌ لا تقبل المعارضة ولا تعترف بها، ولا مكان لها في نصوصها المؤسّسة ومؤسّساتها القيادية.
تظهر الأرقام الواردة في قانون المالية لسنة 2024 أن موازنة الدولة التونسية ستكون في حدود 77.868 مليار دينار (26 مليار دولار)
في هذا السياق العام، المتّسم بعلو صوت الرئيس وحكومته على كل الأصوات السياسية والنقابية والمدنية الموالية للسلطة والمعارضة، انطلق قانون المالية من فرضية تحقيق نسبة نمو تقدّر بـ 2.1 % في سنة 2024، وهذا الرقم لا يتماشى مع ما أعلنه رئيس الحكومة، أحمد الحشاني في بيانه للسنة المالية الجديدة أمام مجلس النواب يوم 17 نوفمبر/ تشرين الثاني 2023 أن نسبة النمو ستبلغ 3 %، ومع ما جاء في تقرير صندوق النقد الدولي، أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بعنوان "آفاق الاقتصاد العالمي: اجتياز المسارات العالمية المتباعدة" أن نسبة النمو المتوقعة لسنة 2024 في تونس هي في حدود 1.9 %، الأمر الذي ينزع المصداقية عن التقديرات الحكومية منذ البداية. كما جرى اعتماد معدّل سعر برميل النفط الخام من نوع برنت في حدود 81 دولارا للبرميل، تيمّنا بتوقّعات وكالة فيتش للتصنيف الائتماني، بأن تبلغ أسعار النفط في المتوسط 80 دولارا سنة 2024.
تظهر الأرقام الواردة في قانون المالية لسنة 2024 أن موازنة الدولة التونسية ستكون في حدود 77.868 مليار دينار (26 مليار دولار) بزيادة قدرها 6.629 مليارات دينار مقارنة بسنة 2023، وتتوزّع بين الموارد الذاتية للدولة بـ 49.160 مليار دينار منها 44.050 مليار دينار مداخيل جبائية بنسبة 89.6 %، مصادرها الرئيسية هي الأداءات المباشرة بـ 18.157 مليار دينار والضريبة على الدخل بـ 12.383 مليار دينار والضريبة على الشركات البترولية وغير البترولية بـ 5.774 مليارات دينار والأداءات غير المباشرة من معاليم ديوانية وأداءات على القيمة المضافة والمعلوم على الاستهلاك وغير ذلك من الأداءات والمعاليم المقدّرة في مجملها بـ 25.893 مليار دينار، و4.750 مليارات دينار مداخيل غير جبائية متأتّية من عائدات المساهمات بـ 1.260 مليار دينار ومداخيل النفط بـ 673 مليون دينار والمداخيل المتأتية من الإتاوة على أنبوب الغاز الجزائري بـ1.369 مليار دينار ومداخيل الأملاك المصادرة بـ 520 مليون دينار و938 مليون دينار من المداخيل الأخرى لم تفصح عنها البيانات المالية الواردة في القانون، هذا إضافة إلى 350 مليون دينار من الهبات.
وستكون المبالغ المتبقية من الموازنة، المصنّفة في قانون المالية بأنها موارد الخزينة هي في حقيقتها مجموعة من القروض المُزمع اقتراضها في سنة 2024 حدّدها القانون بـ 28.708 مليار دينار منها 16.445 مليار دينار قروضا خارجية و11.743 مليار دينار اقتراضا داخليا هذا إضافة إلى 200 مليون دينار من استخلاص أصل الدّيْن و320 مليون دينار من موارد الخزينة المختلفة. لقد حدّدت الموازنة مصادر بعض القروض الخارجية حيث سيوفّر صندوق النقد العربي 122 مليون دينار، وسيتولى البنك العالمي توفير 218 مليون دينار والبنك الإفريقي للتصدير والاستيراد بـ 1.264 مليار دينار، كما تعهّدت السعودية بـ 1.594 مليار دينار والجزائر بـ 965 مليون دينار، لكن المبلغ الأهم، ومقدارُه 10.307 مليارات دينار صنّفه القانون ضمن قروضٍ أخرى غير معلومة الهوية والمصدر.
نسبة تقارب 90 % من الموارد الذاتية للدولة التونسية لسنة 2024 متأتّية من الجباية هي نسبة مرعبة تقضّ مضاجع المواطن التونسي
أرقام تكشف أكاذيب
تكذّب هذه الأرقام والمبالغ المالية الضخمة المحدّدة للاقتراض، بوضوح، الخطاب السياسي الرسمي للرئيس قيس سعيّد الذي طالما ردّده في مناسباتٍ عدّة، وخصوصا قوله "على التونسيين أن يعتمدوا على أنفسهم"، ردّا على رفض صندوق النقد الدولي إقراض الدولة التونسية 1.9 مليار دولار. ومن غير المستبعد أن يخفي مبلغ ما يزيد عن 10 مليارات دينار غير معلوم المصدر المزمع اقتراضه مدّ قنوات سرية مع الصندوق الدولي للعودة إلى التفاوض مع الحكومة التونسية، لتمكينها من القرض الذي وقع إقراره سابقا، ذلك أن الإعلان عن مصدر القروض المرتقبة سيتسبّب في إحراج الحكومة التونسية والرئيس سعيّد وأنصاره حول السيادة المالية المزعومة، خصوصا أن الرئيس التونسي سبق له أن صرّح يوم 23 أبريل/ نيسان 2023 متوجّها إلى صندوق النقد الدولي "الإملاءات التي تأتي من الخارج وتؤدي لمزيد التفقير مرفوضة.. لا بد أن نعوّل على أنفسنا".
ويكذّب هذه السيادة كذلك احتواء الموازنة على 38 % من القروض. ولا يقتصر هذا الإحراج على الموقف من التداين المشطّ، الأمر الذي جعل منه الرئيس سعيّد محلّ نقد مستمر لعشرية الثورة التونسية 2011- 2021 وللقائمين عليها واتهامهم المتواصل بإغراق البلاد في التبعية المالية للخارج. ورغم ذلك النقد، فهو يعيد إنتاج التوجّه نفسه القائم على المديونية في حلقة مفرغة لا تعرف التوقّف، ممارسا سياسةً جبائيةً مُجحفةً تجاه شعبه. إن نسبة تقارب 90 % من الموارد الذاتية للدولة التونسية لسنة 2024 متأتّية من الجباية هي نسبة مرعبة تقضّ مضاجع المواطن التونسي، وتجرّده من حقه في الحياة الكريمة، بل وتمعن في تفقيره وسلب موارده ومدّخراته، بوسائل الزّجر القانونية، وهي عنوان قتل الاستثمار وهروب المستثمرين إلى الخارج، وميل أصحاب المال إلى الاحتفاظ بأموالهم خارج المسالك الاقتصادية والمالية الرسمية للدولة، وهي علاوة على ذلك كله سبب إفلاس وإغلاق عشرات الآلاف من المؤسّسة الاقتصادية الصغرى والمتوسطة التي يتجاوز عددها 700 ألف مؤسّسة، منها 134 ألف مؤسّسة أغلقت أبوابها سنة 2022 وزهاء 250 ألف مؤسسة باتت غير قادرة على خلاص أجرائها وفق تصريح رئيس المنظمة الوطنية لروّاد الأعمال، ياسين قويعة.
لا تزال تونس تنتمي إلى الدول ذات العلوّ الشاهق من حيث الضغط الجبائي
ولا تزال تونس تنتمي إلى الدول ذات العلوّ الشاهق من حيث الضغط الجبائي، فقد صنّفتها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية في تقريرها لسنة 2023 بعنوان "إحصائيات المداخيل العمومية" بأنها الأعلى جباية في أفريقيا بـ 32.5، هذا من دون ذكر الإجراءات الجبائية الجديدة التي ضمّنتها الحكومة التونسية قانون المالية الجديد، وجردها مقال منشور في موقع نواة الاستقصائي بعنوان "مشروع ميزانية 2024: واقع الضغط الجبائي وحلم تعبئة الخزائن"، ومن أهمها الترفيع في نسبة الإتاوة من 1 إلى 3% بالنسبة إلى المطاعم السياحية المصنّفة والمقاهي من الصنفين الثاني والثالث وقاعات الشاي، مع توظيف 3% من رقم المعاملات على المؤسّسات السياحية والحانات ومصنعي المشروبات الغازية والكحولية، الإتاوة على الملاهي والنوادي الليلية غير التابعة للمؤسّسات السياحية من 3% إلى 5%، مع توسيع مجال تطبيق معلوم الإقامة الذي كان مفروضًا فقط على النزل، ليشمل كلّ المؤسسات السياحية، بما في ذلك دور الضيافة، والترفيع فيه بالنسبة إلى الأجانب ليصل إلى 12 دينارا عن الليلة بالنسبة إلى النزل من فئة أربع وخمس نجوم، إلى جانب إحداث معلوم على مشتقّات الحليب باستثناء "الياغورت". وتبرّر الحكومة هذه الزيادات بأنها ستوفر أموالا للحفاظ على صندوق التعويض لدعم المواد الغذائية والطاقة والنقل، وذلك من دون الإشارة إلى فشل القرارات التي جرى اتخاذها في قانون المالية سنة 2023 لتقديم الدعم لمستحقيه عبر إحداث منصّة في المركز الوطني للإعلامية سُجّل فيها ثمانية ملايين مواطن تونسي من بين 12 مليونا يمكنهم التمتع بتعويضات مالية، من دون أن يقع تفعيل هذا الإجراء في هدر واضح للأموال العمومية.
كما أحدث القانون معلوما ظرفيا لفائدة ميزانية الدولة لسنتي 2024 و2025، حدّده الفصل 64 كالآتي ـ يحدث معلوم ظرفي لفائدة ميزانية الدولة، يستوجب على البنوك والمؤسسات المالية المنصوص عليها بالقانون عدد 48 لسنة 2016 المؤرخ في 11 جويلية 2016 المتعلق بالبنوك والمؤسسات المالية وعلى مؤسسات التأمين وإعادة التأمين الناشطة طبقا لأحكام مجلة التأمين بما في ذلك مؤسسات التأمين وإعادة التأمين التكافلي وصندوق المشتركين وذلك خلال سنتي 2024 و2025، يحتسب المعلوم المذكور بنسبة %4 من الأرباح المعتمدة لاحتساب الضريبة على الشركات التي يحلّ أجل التصريح بها خلال سنتي 2024 و2025 مع حد أدنى بـ10.000 دينار سنويا. لكن قانون المالية لم يضع آليات واضحة، تحول دون تحميل المواطن ذلك المعلوم بالحيلولة دون زيادة أسعار خدمات المؤسسات والشركات المعنية بالضرائب والإتاوات الجديدة وخاصة البنوك التي تتميز بارتفاع كلفة خدماتها وبالاقتطاعات الضبابية والترفيع في فوائض القروض ويغيب عنها الوضوح والشفافية في عديد من العمليات البنكية، وتعمد بعض البنوك مغالطة الحريف، وهو ما يثير حفيظة حرفاء البنوك التونسية باستمرار، واتهام هذه المؤسسات بالتحيل والسرقة والفساد، الأمر الذي أقرّه الرئيس قيس سعيّد بصريح العبارة في أثناء زيارته المفاجئة للمقر المركزي للبنك الوطني الفلاحي يوم 15 سبتمبر 2023، من دون أن يتخذ إجراءات أو يضع سياسات لمعالجة هذا الإشكال المزمن والمستعصي القائم على نهب أموال التونسيين بدون وجه حقّ.
يوجد 638 ألف عاطل عن العمل وفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء للثلاثي الثالث من سنة 2023
شطط جبائي
عمّق قانون المالية من وطأة الشطط الجبائي والرقابة الصارمة على المؤسّسات، من خلال الفصل 54، وجاء فيه "تعوض عبارة بين 1.000 دينار و20.000 دينار الواردة بالفقرة الأولى من الفصل 100 مكرّر من مجلة الحقوق والإجراءات الجبائية بعبارة بين 5.000 دينار و50.000 دينار. كما تعوّض عبارة 100 دينار الواردة بنفس الفقرة بعبارة 200 دينار"، وهي عقوبات مالية مجحفة تسلّطها سلطة الإشراف على المؤسّسات التي تخفي بياناتها المالية على تلك السلطة أو تتلاعب بها، بسبب الصعوبات الحادّة التي تعيشها، ما قد ينتهي بها إلى الإفلاس والإغلاق، ثم حاول تدارك الأمر بتضمين القانون بعض الفصول للحدّ من الشطط الجبائي المتنامي.
ومثالا على ذلك التخفيف في جباية العربات والدراجات الكهربائية محدودة الاستعمال بـ 50 %، والتشجيع على تمويل المشاريع في مجال الاقتصاد الأخضر والأزرق والدائري والتنمية المستدامة، وتمكين هذا النوع من الأنشطة الاقتصادية من امتيازات جبائية جرى تضمينها في الفقرة الأولى من الفصل 74 من مجلة الضريبة على دخل الأشخاص الطبيعيين والضريبة على الشركات، والتخلي كليا لفائدة المطالبين بالأداء من الأشخاص الطبيعيين عن المبالغ المستوجبة، بعنوان المعلوم على العقارات المبنية والمساهمة لفائدة الصندوق الوطني لتحسين السكن والمعلوم على الأراضي غير المبنية لسنة 2021 وما قبلها وخطايا التأخير ومصاريف التتبع المتعلقة بها، وذلك بدفع كامل المعاليم المستوجبة بعنوان سنة 2024 وسنتي 2022 و2023 وفق ما يحدده الفصل 59 من قانون المالية من شروط.
وقد جاء الفصل عدد 58 من قانون المالية لسنة 2024 الحامل عنوان "دعم الامتثال الضريبي وتكريس مزيد من الضمانات للمطالب بالأداء تيسير تسوية وضعية الأشخاص بعنوان الديون الجبائية المثقلة والخطايا والعقوبات المالية والإغفالات المتعلّقة بالتصريح بالأداء والتصاريح الجبائية المنقوصة" الأكثر تعبيرا عن شطط وعشوائية السياسة المالية والجبائية التونسية المضمّنة في قانوني 2022 و 2023، القائمة على خطايا التأخير المجحفة التي تجاوزت الأداءات المطلوبة أضعافا مضاعفة ما شجّع التهرب الجبائي، وعلى تأنيب الضمير الذي تعيشه وزيرة المالية مهندسة تلك السياسة التي كانت مصدر أذى للكثير من المؤسسات وأدت إلى انهيار بعضها. فحوى هذا الفصل أن يتم التخلّي عن خطايا التأخير في دفع الأداءات الراجعة للدولة وكذلك خطايا الاستخلاص ومصاريف التتبع المتعلقة بهذه الأداءات، وتسوية الخطايا والعقوبات المالية والخطايا الجبائية الإدارية، مقابل إلغاء كل الخطايا كليا أو جزئيا على أن يلتزم المطالبون برزنامة دفع مع الجهات المعنية لأصل الدين وما يتبقى من الخطايا وفق الشروط القانونية التي حدّدها قانون المالية، وينطبق هذا الإجراء على التصاريح الجبائية ومعاليم الجولان.
لا تزال نفقات كتلة الأجور تحتل المرتبة العليا في سلّم نفقات الدولة بـ 23.711 مليار دينار، رغم ضعف عدد المزمع تشغيلهم
نفقات وأجور
تتوزّع الموازنة التونسية إلى 59.805 مليار دينار نفقات الدولة، و17.863 مليار دينار أصل الدين المستوجب على الحكومة التونسية تسديده سنة 2024، مع إضافة مبلغ 200 مليون دينار بعنوان قروض وتسبقات الخزينة. ولا تزال نفقات كتلة الأجور تحتل المرتبة العليا في سلّم نفقات الدولة بـ 23.711 مليار دينار، هذا رغم ضعف عدد المزمع تشغيلهم، مقتصرا على 13586 ينتمون جميعا إلى مدارس التكوين الأمنية والعسكرية والتعليمية والصحية، في ظل وجود 638 ألف عاطل عن العمل وفق إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء للثلاثي الثالث من سنة 2023، وتمكين، للسنة الثانية، موظفي الدولة من التقاعد المبكّر للبالغين من العمر 57 سنة فما فوق، في إطار تطبيق الإصلاحات المقترحة من صندوق النقد الدولي، ما سيؤدّي إلى انخفاض كتلة الأجور من 14.4 % سنة 2023 إلى 13.5 % سنة 2024. ويأتي في المرتبة الثانية بعد الأجور نفقات الدعم المحددة بـ 11.337 مليار دينار وتمثل 19 % من نفقات الميزانية و6.5 % من الناتج المحلي الإجمالي، وتتوزع كالتالي مبلغ 8.033 مليارات دينار مخصص لدعم المحروقات والكهرباء والغاز و3.591 مليارات دينار لفائدة المواد الأساسية و660 مليون دينار لفائدة النقل العمومي، وقد حافظت الحكومة على هذا الرقم الكبير المخصص للدعم خشية تفاقم الأزمات الاجتماعية والحركات الاحتجاجية المتأتية من تنامي الفقر في تونس البالغ نسبة تتجاوز 16 % حسب آخر إحصائيات المعهد الوطني للإحصاء التي أعلنها في شهر فيفري من السنة المنقضية، ومن تحول الطبقة الوسطى في مجملها إلى طبقة فقيرة عاجزة على التعايش مع الزيادة في الأسعار وندرة المواد واختفاء بعضها من الأسواق مما يضاعف من أثمانها والتضخم وتراجع الدينار أمام العملات الأجنبية.
وفي مقابل هذه الأرقام الثقيلة على موازنة الدولة، لم تخصّص الحكومة سوى 5.274 مليارات دينار للاستثمار، وهذا الرقم له دلالة واضحة، مفادها أن من يخطط للدولة التونسية لا يمتلك مشروعا اقتصاديا أو تنمويا واضح المعالم، يمكن أن يصنع الثروة ويراكمها، بهدف الخروج من الأزمة المزمنة التي تعيشها تونس، وتوفير مواطن الشغل وحماية العملة الوطنية، عبر إقامة المشاريع الكبرى الحديثة في مختلف المجالات، وجعل الاستثمار العمومي والخاص مصدر تمويل الموازنة، بدلا من الإمعان في الجباية والاقتراض المشطّ لدعم ميزانية الدولة وتسديد الدين وخدمات الدين وتمكين موظّفي الدولة من مرتباتهم، في حلقةٍ مفرغةٍ لا تصنع سوى مزيد من الفقر والإفلاس المؤجّل.