من ينتصر لضمانات العدالة في مصر؟
تزايدت جرائم القتل بشكل لافت في مصر في الآونة الأخيرة، ومثلت اتجاهاً تصاعدياً للعنف المجتمعي، إذ تحتلّ مصر المركز الثالث عربياً والـ 24 عالمياً في جرائم القتل، وفقاً لبعض الدراسات، كما مثّلت جرائم العنف العائلي ما بين ثلث هذه الجرائم إلى ربعها، ما أدّى إلى بروز مخاوف مجتمعية من هذه الظاهرة، والتي ترجع إلى عدة أسباب، منها الخلافات الأسرية والضغوط الاقتصادية والمادية المختلفة.
وظهرت هذه الظاهرة بقوة بين صغار السن، وهو ما بدا في جريمة قتل نيرة أشرف، الطالبة في جامعة المنصورة على يد زميلها الشاب محمد عادل، بسبب رفضها الارتباط به. كما ظهرت قضية قتل القاضي أيمن حجاج زوجته الإعلامية شيماء جمال، بسبب تهديدها له بإفشاء أسرار ووقائع خاصة بعمله القضائي.
وأثارت تلك القضايا وغيرها حالة من الجدل العام وسط الرأي العام المصري على وسائل التواصل الاجتماعي، وأذكى هذا الاهتمام تسريب رسائل خاصة بين الطرفين، واعترافات المتهمين أمام النيابة، وهو ما يعدّ خرقاً لمبدأ سرّية التحقيق الجنائي الذي يكفله القانون، بالإضافة إلى حالة النشر الإعلامي المتزايد لتصريحات معارف الأطراف المختلفة.
وعلى الرغم من اعتراف الجناة في الحالتين، إلا أنها قوبلت بشكل مختلف. في الحالة الأولى، ورغم بشاعة الجريمة التي ارتكبت ذبحاً للضحية أمام جامعة المنصورة في أثناء توجهها إلى أداء الامتحانات أمام زملائها وصوّرته الكاميرات، ورغم ذلك ظهر اتجاه يتعاطف مع المتهم، بعكس الحالة الثانية. كما حاول بعضهم جمع ما تسمّى الدية المالية لإعطائها إلى أسرة الضحية، وهي غير معترف بها قانوناً في جرائم القتل العمد، ولا يعترف القانون المصري بها، وهي تختلف عن مبدأ التعويض لجبْر الضرر النفسي والمعنوي والمادي للمجني عليه، كما لا يعترف القضاء بالتصالح في هذا النوع من القضايا، بعكس بعض الجرائم البسيطة. على عكس ذلك، لم يبد المصريون أي تعاطف مع القاضي المتهم بقتل زوجته، بل نشرت مواقع سجلاً غير موثق بعقارات يمتلكها، وهو لم يتجاوز سن الخمسين. وفي الواقعة الأولى فرضت المحكمة مبدأ حظر النشر صبيحة الجلسة الأولى، بينما لم تفرضه في الحالة الثانية، الأمر الذي لم يمثل فارقاً كبيراً في استمرار النشر في الحالتين.
غياب الثقة لدى الرأي العام في المنظومة القانونية والقضائية
المهم في التناول الإعلامي والمجتمعي أنّ المقارنة كانت حاضرة بين المحاكمة القضائية من جهة والمحاكمة الشعبية في الطرف الآخر. ودائماً كان يحدث ذلك الاستقطاب في قضايا سياسية بعينها، مثل تنظيم ثورة مصر وسليمان خاطر وأيمن حسن المتهمين بقتل إسرائيليين، أو في قضايا أخرى بشأن العلاقة بين السلطة والمعارضة، إذ عقدت عشرات المحاكمات الشعبية لرموز نظام حسني مبارك. لكنّ الملفت حدوث ذلك في قضايا جنائية يظهر فيها حجم الجرم وبشاعته، وكانت دائماً تحظى بالإدانة من الرأي العام المصري ككلّ، ويبدو أنّ انتشار وسائل التواصل كان أحد أسباب ذلك، حيث برزت اتجاهاتٌ تتعمّد إبراز رأي موازٍ متعاطف مع الضحية، إما بهدف إشغال المجتمع بتطورات القضية وتصعيدها فيما بعد، ولكن ذلك يظهر أن لدى جزءٍ كبيرٍ من الرأي العام استعداداً للانسياق وراء هذا التوجّه، بحجّة وجود أسباب، مثل الاستغلال المادي، والذي لا يبرّر ارتكاب الجريمة، وكان بإمكان الجاني القيام بخياراتٍ أخرى بديلة. وبرز هذا التعاطف الذي يحدث في سابقة لم نرها من قبل في مثل هذه القضايا الجنائية البعيدة عن دائرة السلطة. والمثير هنا أنّ هذا التعاطف من الرأي العام لم يظهر مع المحبوسين في قضايا خاصّة بالحريات وحقوق الإنسان.
المهم أنّ هذه القضية تشير إلى مؤشّراتٍ مهمّة، ويجب أن تحظى باهتمام الدولة أهمها: مدى غياب الثقة لدى الرأي العام في المنظومة القانونية والقضائية، وخصوصاً بعد ما حدث من تسريب للاعترافات والرسائل المتبادلة بين الجُناة والضحية. وغذّت هذه الحالة التركيز الإعلامي على كلمة الادّعاء ورئيس المحكمة، والتي حملت إدانة سابقة للمتهم قبل النطق بالحكم، من دون توجيه الاهتمام نفسه لمحامي المتهم. كما فصلت المحكمة في القضية الخاصة بمقتل نيرة، في أول جلسةٍ بعد أيام من إحالتها من النيابة العامة، وهو ما يمثل سابقة استثنائية في تلك القضايا التي يصل فيها الحكم إلى عقوبة الإعدام، والمفترض أن تأخذ وقتاً طويلاً بين مرافعات محامي الدفاع، وسماع شهود الواقعة، والتسرّع فيها كان خطأ بعدما شكلت استقطاباً اجتماعياً وسط الرأي العام. ويبدو أنّ جهات معينة قرّرت إدخال القضية إلى ساحة الجدل العام، لإبعاد النظر عن قضايا أخرى أهم، لتكون بمثابة عصا موسى السحرية. وقد تأثرت المحكمة بضغوط الرأي العام بالإدانة المسبقة من دون توفير كلّ الضمانات القانونية للمتهم ودفاعه. ولم تخلُ القضية من استقطاب سياسي، حيث وجّه كثيرون سهامهم باتهام أطراف تابعة لجماعة الإخوان المسلمين بوقوفها وراء التماس الأعذار للجاني، لأنّ الضحية كانت غير محجّبة!
توازٍ بين المحاكمات القضائية التي تجرى للمتهمين ونظيرتها الشعبية التي يناقش فيها الرأي العام جوانب الجريمة
ومؤشر ثانٍ أنّ هذه الجرائم أعادت الجدل بشأن عقوبة الإعدام بين رافضيها ومؤيديها، سواء برفضها من منظور حقوقي باعتبارها تمسّ الحق في الحياة، في مقابل إصرار الفريق الآخر على أنّ الإعدام يعتبر نوعاً من القصاص من منظور الشريعة الإسلامية.
ومؤشّر ثالث هو وجود توازٍ بين المحاكمات القضائية التي تجرى للمتهمين ونظيرتها الشعبية التي يناقش الرأي العام فيها جوانب الجريمة، ويُصدر أحكامه الخاصة بشكل مبسط، في غياب أي ضماناتٍ حقيقيةٍ للمحاكمات العادلة التي تحترم الأفكار المستقرّة بالأنظمة القانونية المختلفة، ومنها احترام قرينة براءة المتهم حتى ثبوت إدانته، وحقه في الاستعانة بمحامٍ، وأن تنظر محاكمته محكمة منصفة ومستقلة، وحقه في الرعاية الصحية والنفسية، وأن تهيئ المحكمة كل الظروف لسماع أطراف الدعوى، سواء الجاني أو ممثلو الضحية، وحتى الشهود أنفسهم، والسماح بمناقشتهم من قضاة المحكمة وممثلي الدفاع والادّعاء.
وقد يعيد هذا الموضوع الجدل حول فكرة التمثيل الشعبي في المؤسسة القضائية، وهو ما تأخذ به بعض النظم، كالنظامين الأميركي والإنكليزي، في تكوين ما تسمّى هيئة المحلفين التي تمثل نوعاً من القضاء الشعبي، وهناك اتجاه يرى أنّه يمكن تطبيق هذا النظام في مصر باعتباره طريقاً لإشراك الشعب في إدارة العدالة ومباشرة القضاء. ويدعم هذا الاتجاه مدى التدهور والانتقاص لاستقلال القضاء في السنوات الأخيرة بسبب التدخلات في القوانين الخاصة بإدارة السلطة القضائية.