من ينافس ترامب؟
غادر دونالد ترامب منصبه في البيت الأبيض قبل حوالي سنتين، وهو يَعِد نفسه بالعودة، بعد أن أوجد لنفسه مكانة شعبية جعلت أنصاره يخترقون تقاليد الديمقراطية الأميركية، ويحتلون الكونغرس، في سابقة ذات دلالة على ما مثّله ترامب لدى طبقات معينة في المجتمع الأميركي، كما افتتح، دولياً، خطّاً مختلفاً عن سياسات الجمهوريين التقليدية.
ابتعد الرجل عن الأحلاف، وجرّب أن يتحرّك منفرداً، وطرح شعاراتٍ للداخل الأميركي بطريقة ذات صبغة قومية بالغة، وحاول النأي بالنفس عن أوروبا والاكتفاء بالمراقبة، وانتقد التجمّعات الدولية الاقتصادية والسياسية، مع مجاهرة في رغبته باستجرار أموال النفط العربي في الخليج، كما قاد "عملية سلام" وصلت إلى التطبيع الكامل بين إسرائيل وثلاث دول عربية. وفي الوقت ذاته، أظهر عداءً نحو إيران والصين، واكتفى بمداعبة روسيا من بعيد، وغادر البيت الأبيض وهو لا يصدّق أن الجمهور الأميركي فضل عليه أحد عجائز الديمقراطيين.
شكل جديد لوجه الجمهوريين قدّمه ترامب، ونجح في لعب دور المرشّح الرئاسي المحتمل في الانتخابات المقبلة، وكأن الجمهوريين قبلوا بما يمثله من أيديولوجيا معتمدَة لحزبهم، فسرعان ما طفا اسمُه مرة أخرى خلال الانتخابات النصفية قبل أيام، وقد برمج ظهوره واختفاءه خلال السنتين الماضيتين بطريقة إعلانية تبدو مدروسة، ليبقى في أذهان جمهوره، ومجموعة الفضوليين الذين يرغبون بمشاهدة المزيد من ألاعيبه، بصورة نموذجية للجمهوري الأبيض. وكان متوقعاً على نطاق واسع أن يكتسح الجمهوريون الانتخابات، ليسيطروا على مجلسي النواب والشيوخ معاً، الأمر الذي يجعل عودة رئيس جمهوري أكثر سهولة. وكان ترامب يعد نفسه لانطلاقة جديدة يبدأ فيها حملة انتخابية على قاعدة الاكتساح الجمهوري المتوقع، ولكن شيئاً من هذا لم يحصل، بل حدث تكرارٌ تقليدي أعيد فيه ما كان يحصل طوال العهود السابقة، وفيه تنبيهُ الجمهور للرئيس الأميركي الحالي بأنهم يراقبونه، وقد أعطوا أصواتهم لخصومه ليبقى على حذر، ولإضفاء التوازن الرصين على السياسة الأميركية.
رغم القبول الجماهيري لسياسة جو بايدن تجاه الحرب في أوكرانيا، والتي يمكن أن يتقبل الناخب ارتداداتها بعض الوقت، ولكنه يستطيع أن يقلب الطاولة بعنفٍ بعد سنتين، فيخرج بايدن من البيت الأبيض. ومع أن مردود كل من باراك أوباما وبيل كلينتون كان أقلّ من بايدن، عندما حانت انتخاباتهم النصفية في الفترة الأولى، فقد نجحوا في تجديد الولاية لفترة ثانية. وقد يكون اندفاع بايدن لإعادة الكرّة معلقاً بنتائج الحرب في أوكرانيا بشكل وثيق، فمن شأن إطالة الحرب أمداً جديداً أن تجعل فرص نجاحه أقل، بعد أن ساند الأوكرانيين بأموالٍ ضخمة وشحنات سلاحٍ كبيرة وحديثة، وجر وراءه كل أوروبا، بينما المشهد الأخير للحرب ما زال بعيداً.
تُظهر الانتخابات النصفية اليوم، إلى جانب التاريخ الطويل لعمليات الانتخاب، أن الجمهور الأميركي لا يقبل التغيّر الحاد دفعة واحدة. ويفضّل أن يذهب إلى التغيير بخطواتٍ بطيئة وطويلة، وقد يبدي شيئاً من الدهشة، عندما يمارس رئيسٌ ما سياسات غريبة، لكنه يكتفي بالترقب حتى ظهور النتائج، وقد أثار ترامب فضول شارع عريض، إلى جانب الذين يقفون أيديولوجياً مع الجمهوريين. ورغم بعض النجاحات التي حققها في سياسات الخارج والداخل، فإن ذلك كله لم يكن كافياً للتجديد له، ولا لدعمه معنوياً بمساندة حزبه في الانتخابات الحالية. وذهب الجمهور إلى أبعد من ذلك، بمحاولة البحث عن مرشّح بديل، ما مهّد لظهور جمهوري آخر قادر على سرقة القلوب بعمره الصغير وطريقة أدائه المبتكرة، وإيمانه العميق بكل قيم الجمهوريين، هو رون دي سانتيس. وقد أعطاه ناخبو فلوريدا فترة ثانية لحكم الولاية وبفارق قياسي، الأمر الذي قد يجعل ترامب يفكّر ملياً قبل أن يعلن رغبته بالترشّح ثانية. ويذكر التاريخ حالة واحدة حكم فيها رئيس أميركي فترتين غير متتاليتين. ولكن من الصعب أن يعيد التاريخ نفسه هذه المرّة.