من غُصص النجاح

29 يونيو 2023

(محمد شبعة)

+ الخط -

"ومفيش فرحان في الدنيا زي الفرحان بنجاحه"، فعلاً ... ففرحة النجاح لا تشبه فرحة أخرى، ذلك أنها تأتي جائزةً على جهد مبذول، وتحقيقاً لهدفٍ مرصود، وهي فرحة يتشارك فيها الجميع، لأن الجميع قادر على النجاح في أي شيءٍ في حياته، مهما كان بسيطاً جداً. بل إننا أحياناً باستطاعتنا أن نلعب لعبة النجاح وننجح فيها أيضاً، إن استطعنا الفرح بأبسط الإنجازات في يومياتنا الصغيرة، فمعنى النجاح الكبير يمكن أن يتحقّق بقصص صغيرة جداً لا تكاد تُرى، وربما لا يراها سوى صاحبها.

وبمناسبة نهاية العام الدراسي هذه الأيام، وإعلان نتائج الامتحانات في المدارس، وخصوصاً في الثانوية العامة، التي يودّع فيها الطالب عادة المدرسة، ليبدأ رحلة جديدة في العمل أو في الجامعة، فيبدو الحديث عن النجاح يهمّ الجميع تقريباً. ذلك أن النجاح في الدراسة عادة أول نجاحٍ يعيه المرء منذ الصفّ الأول الابتدائي، وحتى الصفّ الأخير في المدرسة. لذلك، ارتبطت مفردة النجاح ومعناها في المدرسة، حتى صارت هذه الهدف الأول والهدف الأخير. وفي كل مرّة يتسلّم الطفل شهادته الدراسية ممهورة بمفردة ناجح، يتعزّز في أعماقه المعنى، حتى أصبح يبحث عنه بكل الطرق، المشروعة، بالدراسة والاهتمام والمذاكرة والحفظ والانتباه وسهر الليالي بصحبة الكتب، أو ربما تلقّي الدروس الخصوصية من المعلمين خارج أوقات المدرسة أو بمساعدة الوالديْن القادريْن على المساعدة، أو غير المشروعة عبر الغشّ في الامتحانات، وهو الأسلوب الذي تطوّر كثيراً في السنوات الأخيرة، وتطبّعت معه الأسر، حتى أصبح الوالدان والأشقّاء يساهمون فيه أحياناً، ويساعدون ابنهم في إعداد موادّ الغش وأدواته للحصول على أعلى درجات النجاح.

أتذكّر قبل ما يقرب من أربعة عقود، عندما كنت في الثانوية العامة، أنني كنت طالبة فائقة، وأحصل دائماً على أعلى الدرجات، بلا مساعدة من أحد، لا في البيت ولا في خارجه، وكان الغشّ جريمة كبرى لا يقترفها إلا قلة قليلة بطرقٍ ووسائل بدائية جداً، وهي ربما تساعدهم على تجاوز بعض الأسئلة في الامتحانات، ما يضمن لهم الدرجة الأدنى من النجاح. أما مرتبة التفوّق، فلا يحصل عليها إلا المجتهدون فعلاً، وبالتالي كان الجميع يشعر بعدالةٍ حقيقية، فعند الامتحان، كما يقال، يكرم المرء أو يهان، نتيجة جهوده التي بذلها قبل الامتحان، وربما طوال العام الدراسي.

لكن ما نراه الآن للأسف مختلفٌ تماماً، فطرق الغشّ تطوّرت، وأصبحت أساليبه تضمن لكثيرين ممن لم يفتحوا الكتب المدرسية طوال العام الدرجات النهائية في كل المواد، ما يجعلهم من الطلبة المتفوّقين أمام الآخرين، ويجعلهم للأسف يصدّقون خدعة النجاح، وهو ما يهيئهم للعيش في بوتقة الغشّ والظلم طوال الحياة. فكل درجةٍ يحصل عليها طالب بواسطة الغشّ يتجاوز ضررها حالته إلى حالات آخرين لا يغشّون، إما لأنهم مؤمنون بحرمة الغشّ، وإما لأنهم لا يملكون من المال ما يساعدهم على الحصول على أدوات الغشّ الحديثة، لكنهم للأسف يتضرّرون مما يحدث، لأنهم يُحرمون كثيراً من فرصهم الحقيقية في الحصول على مقعدٍ مناسب لقدراتهم أو رغباتهم أو أحلامهم وطموحاتهم لصالح آخرين يحصلون على تلك المقاعد عبر الغشّ أو الواسطة، أو بالتسهيلات الرسمية التي يُحرَم منها طلبةٌ كثيرون لنقصٍ في وثائقهم الرسمية التي لا ذنب لهم فيها، ما يجعلهم يعيشون غصص النجاح قبل أن يفرحوا بقصصها، إذ يدركون مبكّراً أن الأحلام لا تشبه الواقع، وأن ما يجتهدون ويتعبون ويسهرون الليالي للحصول عليه، قد لا يأتي، ليس بسبب تقصيرهم أو تقصير أسرهم، بل بسبب نظام اللاعدالة الذي نعيشه جميعاً، باعتباره النظام الأكثر سيطرةً على مفاصل حياة الكبار ... ورحلة الكبار تبدأ غالباً بعد الخروج من بوّابة المدرسة.

CC19B886-294F-4B85-8006-BA02338302F0
سعدية مفرح

شاعرة وكاتبة وصحفية كويتية، من مجموعاتها الشعرية "ليل مشغول بالفتنة" و"مجرد امرأة مستلقية"، ولها مؤلفات نقدية وكتب للأطفال. فازت بعدة جوائز، وشاركت في مهرجانات ومؤتمرات عدة.