من أنا؟ الهوية بين الفردية وأسر القوالب

02 يونيو 2022

(خالد حافظ)

+ الخط -

مع اقتراب موعد الانتخابات في السويد، وفي سياق النقاش الذي يدور حولها، سألني زميل سويدي: هل كنت تنتخب في بلدك؟ ابتسمت، وقلت له، لم أعرف الانتخابات يوماً، لأني قضيت حياتي لاجئاً. ولدت لاجئاً لأب لاجئ وأنجبت أولادا لاجئين، ولا أعرف حتى ماذا يعني الوطن، لأني ببساطةٍ لم أعرف وطني الذي يُفترض أني أنتمي إليه، فأنا ولدت وعشت بعيداً عنه، ومنعت من العودة إليه كما منع والدي. ارتسمت الدهشة على وجه الرجل، ولم يفهم ما أقول، وكأني قلتُ شيئاً من الطلاسم، أو اعتبرني أهذي، أو اعتبر أن التعبير في لغتي السويدية خانني. وسألني كيف ذلك؟ قلت له، أنا فلسطيني ولدت في سورية، وبذلك بقيت لاجئاً طوال حياتي. سأل، ولماذا لم تصبح سورياً؟ قلت له، لا جواب عندي. فأنا شخصياً لا أملك القدرة على شرح، كيف يمكن أن يبقى الشخص لاجئاً طوال عمره لرجلٍ يمنح بلده الجنسية للمقيمين بعد سنوات قليلة؟! لا أعرف كيف أُعرّف نفسي، من أنا؟ لا أجد من السهولة تعريف المرء لنفسه، إلا إذا قبل بالإسقاطات عليه، وهذه الإسقاطات ليس له يد فيها. صحيحٌ أن الهوية اختراع بشري في النهاية، لكننا لا نقرّره، بل يقرّره الآخرون عنا، ونحن ندخل في قوالبه صاغرين.

في كل مرّة حاولت فيها تعريف نفسي، لم أكن واثقاً مما أقول، رغم أن سؤال الهوية يشغل العالم. بعد الحديث مع الرجل، سألت نفسي ما الذي يجمعني معه، أي هوية مشتركة بيننا، رغم عائق اللغة الذي يمنعنا من نقاش قضايا كثيرة بشكل عميق. وسألت نفسي، من أنا؟ وماذا تعني الهوية بالنسبة لي، ما الهوية أصلا؟

كلما انغلقت على هويتي وكلما كانت هذه الهوية أفقر كانت منتجاً للصراعات أكثر

سؤال الهوية يعني أن التجمعات البشرية والأفراد مشغولون دائماً بتعريف أنفسهم، وعادة ما يكون هذا التعريف بالسلب، أو بالضد من الآخر. أنا لستُ أنت، أنا أتميّز عنك بالهوية المحمولة على معطياتٍ تتفارق مع الهوية التي تحملها أنت. وإذا كانت هويتي ذات طابع تعصّبي، بالتأكيد، لا أراك مساوياً لي بالقيمة، والهوية التي تحملها تعطيك مكانة أقلّ من التي أحوزها، وبالتالي أنت أقلّ مني شأناً. وقد ترى أنت ذلك من زاويتك أيضاً، وبالتالي تراني أقل منك، وتبدأ عملية تصغير الآخر والتقليل من شأنه حتى يبقى في موقعٍ دوني، وعندما لا يقبل هذه المكانة أفرضها عليه، وعندما يتمرّد، يصبح مستحقاً للعقاب وحتى للقتل. تبدأ قصة الهوية من المتخيّل، وتنتهي بالجرائم الواقعية.

هل يحمل الجلاد والضحية، القاتل والقتيل الهوية ذاتها، وهل يمكن الحديث عن هوية وطنية بين قاتل وقتيل، نموذج سورية اليوم؟! هل الاشتراك في العيش في ذات المكان يعطينا هوية مشتركة؟ هل المشترك في الهوية بين الرجل الذي يقف إلى جانبي، وأتناقش معه بلغة متعثرة، والذي يقبل لمن يعيش في بلده عدة سنوات أن يكون مواطناً، أقلّ من المشترك مع جاري الداعشي الذي يريد قتلي، لأنه يعتقد أني كافر سيدخل الجنة على جثتي؟ وهل المشترك بين المجرم الداعشي الذي يقتل المصلين في المسجد والمجرم الأسترالي الذي قتل المصلين في نيوزلندا أقل من المشترك معي أم أكبر؟ وهل المشترك بين المجرمين الأسترالي والسويدي الذي يناقشني في انتخابات الاتحاد الأوروبي أكثر من المشترك بين المجرمين الأسترالي والداعشي؟

واحدة من عيوب الهوية الكبرى أنها تعرّف أصحابها بالسلب في أغلب الأحيان، وهذا يعني بالتالي التركيز على المختلف والمفارق، وعلى القضايا التي تخلق النزاعات. ومن هنا، كلما انغلقت على هويتي وكلما كانت هذه الهوية أفقر كانت منتجاً للصراعات أكثر، والتي يمكن أن تتصاعد إلى مرحلة الصراعات الدامية أو حتى الحروب. تولد الهوية من التعصّب، ولا تولد من التسامح، لأن التسامح يولد من الإقرار بتشابهنا وبحقوقنا المتساوية وبتضامننا بصفتنا بشرا. بينما تولد الهوية، من متخيّل التمييز الوطني أو الطائفي أو العرقي أو الديني .. إلخ، بالتالي تنطلق من تصنيف البشر إلى أصناف، الذين أنتمي إليهم هم المركزيون، سواء كانوا على حق أو على باطل، والآخرون هم دائماً على باطل، وأنا/ نحن وأنت/ هم ننتمي إلى دائرتين مختلفتين لا تتقاطعان.

نستطيع أن نقرّر من نكون في مواجهة الهويات الضيقة والمتعصبة التي تضعنا في قوالب تجعلنا مختلفين بالمعنى السلبي للكلمة

لا تولد كل الهويات في السياق السلبي، لكن الفرق بين الهويات المنطلقة من التضامنات الإنسانية وهويات السلب، هو أن الأولى أقلّ قدرةً على مأسسة نفسها في مؤسسات وسلطات تملك قوة التأثير في واقع العلاقات الدولية والاجتماعية، هي دائماً تفعل فعلها في خلفية المشهد، لأن الجلاد، على سبيل المثال، لا يحتمل أي تضامنٍ مع الضحية من البيئة التي ينتمي إليها والمؤيدة له، لأن ذلك يُعرض المتضامن للخطر تحوّله إلى عدو، وإخراجه من الجماعة. وهذا لا ينطبق على المجتمعات الاستبدادية فحسب، بل وينطبق على المجتمعات التي تدّعي الديمقراطية، إسرائيل، على سبيل المثال، التي تدعي إنها الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط، تُحاصر مواطنيها الذين يحملون وجهات نظر نقدية تجاه احتلال الفلسطينيين، وتطلق على هؤلاء تعبير "اليهود كارهو أنفسهم". في المجتمعات الديمقراطية، هناك إمكانية أفضل أن تعبر الأصوات المنشقّة عن نفسها، إلا أنها تبقى أصواتاً معزولةً في مواجهة مؤسسات الهوية الوطنية والاجتماعية، القابلة لتحشيد قواها وتحويلها إلى نتائج سياسية وحيازة سلطات، والاستمرار في خطاب الأنا الهوياتي، سياسياً واجتماعياً. وهو ما نراه اليوم في الخطاب الهوياتي الشعبوبي المنتشر في الولايات المتحدة والدول الأوروبية، والذي يعطي أحزاب اليمين واليمين العنصري نتائج وازنة في كل انتخابات أوروبية، رغم أن هؤلاء أقلية صغيرة في هذه المجتمعات، لكنهم الأكثر تنظيماً لتمركز عملهم حول خطاب هوياتي سلبي عنصري تجاه الأجانب/ اللاجئين.

نعم، أعتقد أن الهوية اختراع بشري، ونستطيع أن نقرّر من نكون في مواجهة كل الهويات الضيقة والمتعصبة التي تضعنا في قوالب تجعلنا مختلفين بالمعنى السلبي للكلمة، وليس بمعنى التنوع البشري الطبيعي الذي يعطي الغنى للتجربة الإنسانية. هذه الهوية يمكن أن نتمسّك بها، بصفتنا أفرادا، في مواجهة الهويات السلبية المنتجة للصراعات، والتي تحاول السلطات تعزيزها، مطلق سلطات في كل العالم.

D06B868A-D0B2-40CB-9555-7F076DA770A5
سمير الزبن

كاتب وروائي فلسطيني، من كتبه "النظام العربي ـ ماضيه، حاضره، مستقبله"، "تحولات التجربة الفلسطينية"، "واقع الفلسطينيين في سورية" ، "قبر بلا جثة" (رواية). نشر مقالات ودراسات عديدة في الدوريات والصحف العربية.