من أجل السلام في القدس
أفاد حديث نبوي شريف بأنّ المسجد الأقصى بُني بعد بناء الكعبة المشرّفة بأربعين عاماً، أي أنّ المسلمين كانوا يصلون في الأقصى ويزورونه منذ القرن السابع الميلادي، ولم يغيبوا عنه، في أكثر من 1200 عام، سوى 88 عاماً لحكم الصليبيين، قبل أن يحرّر صلاح الدين الأيوبي القدس في الثاني من أكتوبر/ تشرين الأول 1187. أهمية هذه المعلومات تأتي في ظل ازدياد الحديث عن ضرورة احترام الوضع القائم، فقد أصرّ مجلس أوقاف القدس، وكذا العائلة الهاشمية في الأردن، الراعية للأماكن المقدسة في القدس، وقادة دول عربية وإسلامية ووزير خارجية الولايات المتحدة، وحتى وزير خارجية الاحتلال، على ضرورة احترام الوضع القائم في الأماكن المقدسة، رغم زيادة الأدلة على محاولات إسرائيلية، رسمية وغير رسمية، لتغييره.
ما "الوضع الراهن" أو باللغة اللاتينية status quo (استساتس كو)، ويشير إليه المقدسيون بالستتكو؟ هو تفاهمات صيغت في العهد العثماني، وبقيت صالحة، لأنها حافظت على الوضع القائم بين طوائف الأديان نفسها، وفي الوقت نفسه، بين أتباع الإسلام والمسيحية واليهودية.
استمرّ الحكم العثماني للشرق الأوسط أكثر من أربعمائة عام، وبين 1535 و1538 بنى السلطان سليمان سور القدس الذي أصبح هو والبلدة القديمة للقدس إرثاً عالمياً محميّاً بقرار من منظمة اليونسكو. وفي القرن الثامن عشر، وإثر خلاف حاد بين طائفتي الفرنسيسكان والروم الأرثوذكس بشأن كنيسة القيامة، صاغ السلطان عثمان الثالث في عام 1757 اتفاقاً مبنياً على توثيق الوضع القائم وضمانه، فصّل كيفية التعامل مع تسعة مواقع دينية في القدس وبيت لحم. وهو اتفاق يوفر حلولاً إدارية تنظيمية في السنوات العادية، وفي الأعياد في أوقات مختلفة وفي السنوات الكبيسة التي تتصادف الأعياد في وقت واحد، وهو يشمل تنظيم المواقع الدينية بين الأديان نفسها وبين الأديان المختلفة.
يسير بعض المتطرفين اليهود في ساحات الأقصى من دون حذاء، تجنّباً لما يمكن أن يكون تحت أقدامهم!
إلى وقت قصير، بقيت اتفاقية الستاتيكو صامدة ومرجعية لحل كل الإشكالات بين أتباع المسيحية واليهودية والإسلامية وبين الطوائف داخل كلّ ديانة. وحتى بعد انهيار الدولة العثمانية وبدء الانتداب البريطاني، ثم الإدارة الأردنية، وحتى في السنوات الأولى للاحتلال الإسرائيلي، استمر احترام التفاهم العثماني، واستمر الوضع القائم من دون أي تغيير. في السنوات الأولى للاحتلال، منع كبار الحاخامين اليهود زيارة اليهود باحات المسجد الأقصى، وهو ما يسمّونه جبل الهيكل بناءً على تفسير ديني يعتبر أنّ المسجد الأقصى مبنيٌّ على حطام الهيكل الثاني الذي دمّره الرومان عام 70 ميلادي. لكنّ قرار المنع المثبت بلوحة عريضة خارج باب المغاربة جرى تجاوزه بعد خروج فتوى من حاخام يهودي متطرّف، تشير إلى أن مخلفات الهيكل الدينية، ومنها ما يسمى قدس الأقداس، ليس بالضرورة في كلّ ساحات المسجد الأقصى البالغة 144 دونماً. ولذلك من الممكن زيارة بعض المناطق في ساحات الأقصى، من دون دَوس أيّ معلم مقدّس. وبذلك بدأت الزيارات، إذ يسير بعض المتطرفين اليهود من دون حذاء، تجنّباً لما يمكن أن يكون تحت أقدامهم!
وبما أنّ المسجد الأقصى مكان تاريخي، سمحت دائرة الأوقاف الإسلامية بزيارته لأي شخص غير مسلم، شرط احترام قدسية المكان، والتقيد بساعات خارج أوقات الصلاة والعبادة، تماشياً مع اتفاقيات الوضع القائم، إلّا أنّ زيارات المتطرّفين اليهود لم تكن مثل زيارة أي سائح، بل لها أبعاد خطيرة، الأمر الذي تفجر في مشادّات عنيفة ومقاومة، أدت عام 2014 إلى تدخل من وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، الذي زار عمّان مع رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، نتنياهو، وتوصل الجميع إلى تفاهم جديد، يؤكد الوضع القائم، من خلال عبارة بسيطة، أنّ الأقصى لصلاة المسلمين وزيارة الآخرين. وعلى الرغم من هذه التفاهمات، استمر تآكل اتفاقية الوضع القائم واتفاقية 2014، حيث استمرّت محاولات الزوار اليهود لإطلاق مواقف دينية ومحاولة الصلاة التلمودية. وحتى في فترة إدارة نتنياهو كان اتفاق، في معظم الأوقات، بعدم السماح لأي زياراتٍ خلال شهر رمضان المبارك. وقد قاطع العاهل الأردني، عبد الله الثاني، نتنياهو بسبب الخروج عن التفاهم، والسماح لمتطرفين بالدخول تحت بند الزيارة إلى مكان تاريخي!
في الأمور الحسّاسة، خصوصاً ذات الطابع الديني، من المفضل الاستفادة من الخبرات المتراكمة عبر القرون
لكنّ إدارة رئيس الوزراء الحالي من حزب اليمين الديني الوطني، نفتالي بينت، التي تحكم بناءً على تحالف هشّ، لم تكتفِ بمنع الزيارات حتى في رمضان، بل أصرّت على السماح بالزيارات، التي أصبح واضحاً أنها ليست للسياح، بل لأشخاصٍ لهم أغراض دينية مخالفة للوضع القائم. وزادت الأمر تعقيداً دعوات متطرفين لتقديم أضحية في باحات الأقصى، وجرى توزيع منشور لإحدى المنظمات المتطرّفة بتوفير جائزة قيمة لمن يستطيع أن يصل إلى الأقصى، ويقدم ذبيحة، وهي حمل بمواصفات خاصة. وعلى الرغم من نفي مكتب رئيس الوزراء في آخر لحظة أنه يسمح لأحد بتقديم أضاحٍ يهودية، فإنّ أحداً لم يقتنع بالنفي، واحتشد جمع من المؤمنين المسلمين للدفاع عن الأقصى، ورفض الأوامر السياسية للشرطة فرض سيطرتهم على مسجد خاص بالمسلمين منذ أكثر من ألف عام.
في الأمور الحسّاسة، خصوصاً ذات الطابع الديني، من المفضل الاستفادة من الخبرات المتراكمة عبر القرون. في القدس، ولا سيما البلدة القديمة، ثمّة ضرورة للعمل على تشريع ما يسمّى "الستتكو"، في قرار ملزم في مجلس الأمن، يضمن احترام الجميع الوضع القائم وعدم إعطاء أي فرصة للأطراف الدينية اليهودية لفرض رأيها بقوة السلاح الإسرائيلي.