منظمة العفو الدولية والبلطجة الإسرائيلية
لم تخيّب إسرائيل التوقعات في منطق ومفردات ردّها على تقرير منظمة العفو الدولية، الصادر يوم الثلاثاء الماضي، تحت عنوان "نظام الفصل العنصري (أبارتهايد) الإسرائيلي ضد الفلسطينيين: نظرة على عقود من القمع والهيمنة". مباشرة، جاء الرد من وزارة الخارجية: "هذه هي بالضبط العناصر التي تنبثق منها معاداة السامية الحديثة". كما زعمت أن إدانة التقرير الكيان الصهيوني بوصفها دولة أبارتهايد "تلغي حق إسرائيل في الوجود دولة قومية للشعب اليهودي". أيضاً، لم تخيب الولايات المتحدة أمل إسرائيل في التواطؤ والتعاضد معها، إذ قال الناطق باسم الخارجية الأميركية، نيد برايس: "نرفض الرأي القائل بأن أفعال إسرائيل تشكل فصلاً عنصرياً"، مضيفاً: "نعتقد أنه من المهم ألا يحرم الشعب اليهودي من حق تقرير مصيره في الدولة اليهودية الوحيدة في العالم". المفارقة هنا أن هذا الموقف الأميركي، المتماهي والمتطابق مع لغة إسرائيل، جاء في المؤتمر الصحافي نفسه الذي حرص فيه برايس على انتقاء عباراته، ومارس فيه قدراً كبيراً من ضبط النفس و"الديبلوماسية"، أو قل التواطؤ، وهو يجيب عن سؤال صحافي بشأن تقرير الجيش الإسرائيلي عن جريمة قتل ارتكبها بعض جنوده، الشهر الماضي (يناير/ كانون الثاني) في الضفة الغربية، بحق مسن أميركي من أصل فلسطيني، اسمه عمر أسعد. كالعادة، في مثل هذه الحالات، عندما يتعلق الأمر بحقوق مواطنين أميركيين داست عليها إسرائيل، كان الموقف الأميركي الرسمي اعتذارياً، ومرحباً بـ"الإجراءات التأديبية ضد قائد" الوحدة العسكرية وجنوده الذين ارتكبوا الجريمة.
أحد تفسيرات الإصرار على تحدّي محاولات فرض هيمنة الرواية الصهيونية وإرهابها هو الاستخدام الإسرائيلي والصهيوني المبتذل لتهمة معاداة السامية، بحيث فقدت كثيراً من رصيدها
تدرك إسرائيل واعتذاريوها أنهم عاجزون عن الدفاع عن دولةٍ تزعم أنها "الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط"، فكل شيء فيها يقول عكس ذلك. ومن ثمَّ، وحتى لا يضطروا إلى مناقشة الحقائق، وهو ما سيعرّي وجه إسرائيل البغيض، فإنه لا يبقى أمامهم إلا تسليط سيف "معاداة السامية" على رقاب من يجرؤون على أخذ مواقف أخلاقية ضد جرائمها. إنها محاولة شرّيرة لمصادرة الوعي والموضوعية والعدالة بذريعة جريمة الهولوكوست البشعة التي ارتكبها النازيون الألمان بحق اليهود، في الوقت الذي كانت فيه أوروبا بيئةً خصبة لثقافة معاداة السامية الكريهة. وحتى تنجح حبكة "الحصانة" التي تدّعيها إسرائيل، فإن هذا يتطلب إرغام العالم على القبول بالزعم القائل إنها التجسيد الحيِّ لليهودية، والممثل الشرعي لليهود، حتى وإن كانت بنية الدولة علمانية، وليس كل اليهود يعتبرونها ممثلةً لهم. الخبر السيئ لإسرائيل أن كثيرين في العالم، بما في ذلك في الغرب، ماضون في التحرّر من محاولات القمع والترهيب الذي تمارسه هي وأدواتها من الصهاينة، يهوداً ومسيحيين، ومسلمين، وغيرهم. الشمس لا يمكن أن تغطّى بغربال، والحقائق لا يمكن حجبها بستار من التزييف والأكاذيب.
تقرير منظمة العفو الدولية، الذي خلص، في ثلاثمائة صفحة من البحث والتوثيق المتأني والدقيق، إلى النتيجة الوحيدة المنطقية والموضوعية الممكنة في هذا السياق، ليس عملاً دعائياً، بل هو استند إلى التكييف القانوني لجريمة الفصل العنصري. هي "جريمة ضد الإنسانية"، كما يؤكد التقرير. وهي "تقع عندما يُرتكب أي عمل لاإنساني أو وحشي (وبخاصة أي انتهاك جسيم لحقوق الإنسان) في سياق نظام مُمأسس من القمع والهيمنة بصورة ممنهجة من فئة عرقية معيّنة على فئة عرقية أخرى، بقصد إدامة هذا النظام". وبعد استعراض صور جرائم إسرائيل الكثيرة بحق الفلسطينيين، من "الأعمال اللاإنسانية" التي تشمل الاضطهاد، والاعتقال، والتعذيب، والقتل غير القانوني، والتشريد، وهدم البيوت، ومصادرة الأراضي، والحرمان من الحقوق والحريات الأساسية، ينتهي التقرير إلى أن "إسرائيل تفرض نظاماً من القمع والهيمنة ضد الفلسطينيين في جميع المناطق الخاضعة لسيطرتها: في إسرائيل والأراضي الفلسطينية المحتلة، وكذلك ضد اللاجئين الفلسطينيين، من أجل مصلحة اليهود الإسرائيليين. ويرقى هذا النظام إلى مستوى الفصل العنصري، الذي يحظره القانون الدولي".
سئم العالم جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، وادّعاءها طهوريةً لا تمتّ لها بصلة، وفوق ذلك بلطجتها
منظمة العفو الدولية ليست الأولى التي تؤكد أن إسرائيل دولة فصل عنصري، سبقتها إلى ذلك لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغرب آسيا (الإسكوا)، ثمَّ منظمة بتسيلم، الحقوقية الإسرائيلية، وبعد ذلك منظمة هيومان رايتس ووتش. في كل مرة اتهمت إسرائيل تلك التقارير، (ما عدا تقرير "بتسيلم" التي ينظر إليها على أنها من صور كراهية الذات اليهودية)، الموثقة والمسبّبة، أنها معادية للسامية. ومع ذلك، نرى مزيداً من الإصرار على فضح حقيقة هذه الدولة، المتبنية لإيديولوجيا صهيونية عنصرية تؤمن بالتفوق اليهودي، وتريد أن ترغم البشرية جمعاء على قبولها فوق الإنسانية، وفوق القيم، وفوق الأخلاق، وفوق القانون، وليست فقط مهيمنةً فوق الفلسطينيين. أحد تفسيرات الإصرار على تحدّي محاولات فرض هيمنة الرواية الصهيونية وإرهابها هو الاستخدام الإسرائيلي والصهيوني المبتذل لتهمة معاداة السامية، بحيث فقدت كثيراً من رصيديها، المعنوي والمادي. الشهر الماضي، شاركت الممثلة البريطانية الهوليوودية الشهيرة، إيما واتسون، على حسابها على "إنستغرام" صورة مسيرة مؤيدة للفلسطينيين يحمل مشاركون فيها لافتة كتب عليها: "التضامن فعل". مباشرةً، انهالت اتهامات معاداة السامية على واتسون، وكان في مقدّمة المحرّضين عليها السفير الإسرائيلي السابق لدى الأمم المتحدة، داني دانون، إلا أن اعتذاريي إسرائيل فوجئوا بحجم التعاطف والدعم الكبير الذي حظيت به واتسون من قواعد عريضة، بمن في ذلك مشاهير في الإعلام والفن.
لقد سئم العالم جرائم إسرائيل بحق الفلسطينيين، وادّعاءها طهوريةً لا تمتّ لها بصلة، وفوق ذلك بلطجتها ضد كل من يجرؤ على أن يصفها بما هي: دولة احتلال، ونظام أبارتهايد يمارس تطهيريْن، عرقيا ودينيا. وفوق ذلك دولة تتخذ من الإرهاب والإجرام والتزييف ديدناً لها. تُرى ما رأي اعتذاريي إسرائيل وعاشقيها من العرب الذين يسارعون فيها يريدون كسب رضاها؟