منتدى فلسطين وسؤال المشروع الوطني

29 فبراير 2024

(عبد عابدي)

+ الخط -

نظم المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بالتعاون مع مؤسّسة الدراسات الفلسطينية للدراسات، المنتدى السنوي لفلسطين، في دورته الثانية بالدوحة، من 10 إلى 12 فبراير/ شباط الجاري. وضمن فعالياته، في يومه الأخير (الثالث) انعقدت ندوة عن المشروع الوطني الفلسطيني، تحدث فيها أربعة من السياسيين والأكاديميين والناشطين الفلسطينيين. وبقدر ما طرحت الندوة من تساؤلات بشأن طبيعة هذا المشروع وأطرافه وأدواته ومساراته، لم تكن هناك إجابات واضحة ومحدّدة فيها، أمام تشابك الأبعاد وتعدّد المتغيرات التي تتحكّم في هذا المشروع، ومدى قدرة الأطراف ذات الصلة على الإحاطة بهذه الأبعاد وتلك المتغيرات، وكان من بين التساؤلات التي طُرحت على المتحدثين الرئيسيين في الندوة: هل سؤال المشروع الوطني الفلسطيني هو سؤال فلسطيني ـ فلسطيني فقط؟ أم أنه سؤال إقليمي ودولي أمام تعدد الأطراف المؤثرة فيه؟

كان هذا السؤال محلاً للجدل السياسي والفكري، في غير محله وتوقيته، حيث ذهب بعضهم إلى أن هذه العناصر تشمل: الأهداف والاستراتيجية والآليات، وتنطلق من مجموعة من المبادئ الأساسية التي تتمثل في دعم الصمود، تعزيز الوجود، تعزيز المقاومة، توحيد الصف، توحيد القيادة، التكامل النضالي، اختراق الصفوف الداعمة للكيان الصهيوني، وترسيخ مركزية القضية الفلسطينية. بينما ذهب آخرون إلى أن هذه العناصر تتمحور حول وحدة الشعب، ووحدة الوطن، ووحدة النظام، ووحدة الاستراتيجية، وحقّ الشعب في المقاومة، مع التأكيد على أن فلسطين لم تكن أقرب في أي مرحلة من تاريخها منذ 1948 للاستقلال، من هذه المرحلة في ظل تداعيات معركة طوفان الأقصى.

وتعليقاً على مقولة "في غير محله وتوقيته" لأن بعض المداخلات، وما دار حولها من تعقيبات ومناقشات، كانت تفكر وتناقش بعقلية ما قبل الطوفان، بل وتستخدم المفردات والمفاهيم والشخصيات والكيانات نفسها، وكأن معركة الطوفان لم تحدُث، وهي أكثر المعارك النضالية في تاريخ القضية الفلسطينية تأثيراً ليس فقط في مواجهة الكيان الصهيوني، ولكن على الشعب الفلسطيني، أرضاً وشعباً وكيانات سياسية وحركات مقاومة. فعندما يثير بعضهم قضايا من قبيل "حقّ الشعب في تمثيل نفسه، وعدم تزوير إرادته"، و"ضرورة بناء قيادة وطنية موحدة" و"زمن ما بعد الفصائل المسلحة"، و"إصلاح السلطة الفلسطينية الحالية"، وكأن هناك نوعا من "الرفاهية السياسية" أو "الرفاهية الفكرية". وكأن الشعب الفلسطيني لم يشنّ حرباً استباقية ضد الكيان لأول مرة في تاريخه، وكأن هذا الشعب لم يفقد نحو 30 ألف شهيد في أربعة أشهر، وأكثر من 70 ألف مصاب ومفقود، ونحو 1.5 مليون نازح ومشرد، ويشهد أكبر موجة من موجات الحرب والعدوان والجرائم ضد الإنسانية والإبادة الجماعية منذ تأسيس الكيان المحتل، في ظل حشد وتعبئة عسكرية أميركية وغربية داعمة للكيان بمؤشرات غير مسبوقة.

لم تكن فلسطين أقرب في أي مرحلة من تاريخها منذ 1948 للاستقلال، من هذه المرحلة في ظل تداعيات معركة طوفان الأقصى

من وجهة نظر الكاتب هنا أن تساؤلات تفرض نفسها، على كل المكوّنات (لن أقول الفصائل) الفلسطينية التفكير فيها وتقديم إجابات لها، بعيداً عن دائرة التخوين والتشويه التي كانت حاضرة عند بعض المتحدثين في الندوة، ولن تكون في صالح المشروع وبنائه. ومن هذه التساؤلات اليوم: إلى أي مدى يمكن الاستفادة من تداعيات طوفان الأقصى لضبط بوصلة المفاهيم حول "القضية الفلسطينية" وليس "الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي"؟ و"الإبادة الجماعية للفلسطينيين" وليس "الإبادة الجماعية لسكان غزّة" لأن من شأن كثير من هذه المفاهيم تقزيم القضية وليس العكس، ومن شأنها أن تنعكس سلباً على مسارات المشروع الوطني الفلسطيني.

من ناحية ثانية، من المهم الإجابة عن سؤال إصلاح السلطة الفلسطينية الحالية؟ وهذا السؤال يطرح تساؤلات فرعية شديدة الأهمية من قبيل: مدى القابلية للإصلاح ابتداءً، ومضامين هذا الإصلاح ومستوياته؟ ومن يقوم بالإصلاح؟ وما هي أدوات هذا الإصلاح؟ أم أن السؤال الأدق: هل تتطلب مرحلة ما بعد الطوفان تفكيك هذه السلطة وتغييرها جذرياً، بعد أن ثبت فشلها وعجزها وعدم قدرتها على التعاطي مع كل التحوّلات التي تمر بها القضية الفلسطينية، بما فيها طوفان الأقصى؟ وإذا افترضنا جدلاً قابليتها للإصلاح، هل هذا الإصلاح يفرضه الشعب بكل مكوناته، أم يفرضه الإقليم والخارج بتدخلاته وشروطه وإملاءاته؟ التي يتناقض الكثير منها مع الحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وعدالة قضيته؟

فلسطين، أرضاً وشعباً، فكراً وحركة، لا تفتقد الإمكانات والقدرات والخبرات التي تستطيع بها ضبط بوصلة التفكير في مشروعها الوطني

شهد منتدى فلسطين طرح رؤى وأفكار عديدة، من خلال عشرات الأوراق البحثية التي تم تقديمها من مفكرين وأكاديميين وناشطين ومهتمين بالشأن الفلسطيني، لكن الكثير من هذه الأفكار، خصوصاً ما يرتبط منها بالمشروع الوطني يحتاج إلى تفعيل، والانتقال من مستوى الفكر إلى الحركة، عبر حوارات أعمق يدرك المشاركون فيها دلالات تلك اللحظة الفارقة التي تمر بها القضية بعد طوفان الأقصى، وأن معركة الطوفان قدّمت للقضية ما لم تقدّمه أية مواجهات أو موجات تحرّرية سابقة، وأن بداية هذا الإدراك تكوين التيار الوطني الجامع الذي يجب أن يتجاوز السلطة القائمة، ويتجاوز كل التيارات والفصائل والمكوّنات، ويبني على نتائج الطوفان في إدارته تفاعلاته الداخلية والإقليمية والدولية.

وحتى يتم بناء هذا التيار الوطني الجامع، فإن الأمر يتطلب أمراً في غاية الأهمية، أعتبره سابقاً على بناء هذا التيار، وهو إعادة بناء الثقة بين التيارات والمكوّنات الفلسطينية فيما بينها، وإعادة بناء الثقة بين هذه التيارات وتلك المكوّنات والشعب الفلسطيني، لتعزيز الحاضنة الشعبية لهذا التيار الجامع، في مواجهات كل سياسات الاستهداف والتشويه والتضليل التي تمارسها مكونات داخلية وخارجية، تستخدم في بعض الأحيان "الاعتبارات الإنسانية" في خطابها الإعلامي والسياسي وليس الواقعي، لتحقيق ما تسعى إليه من أهداف، تبتعد بها عن هذا التيار.

فلسطين، أرضاً وشعباً، فكراً وحركة، لا تفتقد الإمكانات والقدرات والخبرات التي تستطيع بها ضبط بوصلة التفكير في مشروعها الوطني، وتيارها الوطني، القادر على تحرير الأرض، واستعادة الوطن المسلوب.

A57B9A07-71B2-477E-9F21-8A109AA3A73D
عصام عبد الشافي

باحث وأكاديمي مصري، دكتوراه الفلسفة في العلوم السياسية، يعمل أستاذاً للعلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة رشد التركية، من مؤلفاته: البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه المملكة العربية السعودية (2013)، السياسة الأمريكية والثورة المصرية (2014).