ملاحظات أساسية عن النهوض العاثر

17 فبراير 2023
+ الخط -

بعد أن استعرض المقالان السابقان لكاتب هذه السطور في "العربي الجديد، في 3/ 2/ 2023 و20/ 1/ 2022، مداخل كتاب محمد حلمي عبد الوهاب "النهوض العاثر... الإصلاح والتجديد في الأزمنة الحديثة... المشارب والتجارب" (المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت، الدوحة، 2020) المختلفة وخرائطه المتعدّدة، ولفتا النظر إلى مضامينه وحججه وأبرز أفكاره. توضح هذه المقالة أهم النتائج التي خلص إليها الكاتب، وقد قسمها إلى 30 نتيجة، نستطيع أن نقدمها للقارئ الكريم في حزم خمس؛ فقد انشغل كاتبنا بالأزهر الشريف في ثماني نتائج، وبجهود محمد عبده وتياره الإصلاحي في ست نتائج، وإسهامات مالك بن نبي في 12 نتيجة. أما التجربة الهندية، ومفهوم التعايش وسياسة التسامح ومبادرات الإصلاح الديني فجاءت في نتيجة واحدة لكل منها.

جاءت متحصلات الدراسة عن الأزهر الشريف متفرّقة، حيث تناول، في البداية، التيارات داخل الأزهر من الإصلاحيين والمحافظين، وأكّد أن التوتر بين التيارين شكّل ملمحا أساسيا من ملامح تاريخ الأزهر وذاكرته، بل أكّد لاحقا أن نكوص الأزهر عن محاولات الإصلاح كان بسبب هذا التوتر، وبيّن الكاتب الدور الرائد للأزهر في النهضة العلمية التي راجت في مصر عقب سقوط بغداد، والتي تمثلت في الاهتمام بالعلوم العقلية والرياضية؛ إلا أنها، بحسب الكاتب، سرعان ما تراجعت، وصولا إلى القول بحرمتها حتى صدرت فتوى أزهرية بجواز تعلّمها وعدم حرمة تدريسها.

واستمرّ التراجع، وجرى الانشغال بالشروح وشروح الشروح، والتي سمّوها الحاشية ثم شرحوها، ويفيد الكاتب بأن هذه الحواشي لا تزال رُحى التعليم الديني في الأزهر تدور حولها. ورصد الانعطافات التي شهدها الأزهر في عمليات تحديثه، أبرزها التي جرت منتصف القرن الثامن عشر، وكانت من نتائجها إثارة ضرورة تعلم العلوم الرياضية، ولكن الأزهر بقي على حاله من الجمود إبّان الحملة الفرنسية على مصر 1798، كما أهمل الاعتبار بنهضة محمد علي، وأن الشيخ حسن العطار لم يخّلف نتائج تذكر على مستوى إصلاح المؤسسة الأزهرية وتحديثها، باستثناء تدريس علوم الجغرافيا والأدب والتاريخ ومشاركة رفاعة الطهطاوي في بعثة علمية إلى فرنسا، كما رصد الكاتب دور الأزهر (أفرادا ومؤسّسة) في ثورة 25 يناير (2011).

إصلاح الأزهر كان جزءا من رؤية الإمام محمد عبدة للإصلاح الديني ككل

ونعتقد أن دور الأزهر في ثورة يناير امتداد لدوره السياسي في ثورتي القاهرة الأولى والثانية لمواجهة الحملة الفرنسية، وهو دور مشهود لا يمكن لأحد إنكاره، وكان من أهم أسباب فشل الحملة الفرنسية على مصر، خصوصا أن نابليون قد حاول أن يربط دخوله بغطاء ديني آنذاك. ومن هنا، يجب أن يشير تقييم مؤسسة كالأزهر أو حركة أفرادها إلى تلك المواقف المهمة وتعظّمها في مواجهة الغازي الخارجي أو الاستبداد الداخلي. ولعل ما قامت به واحدة من الدراسات في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية حول الدور السياسي للأزهر يمثل ثبتا مهما في حركة الأزهر ودوره الإيجابي في الحياة السياسية، وهو أمر ربما لم يهتم به كاتبنا القدير بالشكل الكافي الذي يتناسب مع تشريح ذاكرة الأزهر السياسية والمجتمعية وتحليلها. ولعل العبارة التي أشار فيها المؤلف إلى جمود الأزهر، كان فيها من التعميم غير الدقيق لتلك المرحلة. وكان عليه أن يشفع ذلك بقيد غاية في الأهمية حول ما ذكرناه آنفا عن دور الأزهر في مقاومة الحملة الفرنسية والقيادة الشعبية التي تقدّمها، وهو أمر أشارت إليه مقالة سابقة لكاتب هذه السطور، أن دراسة علاقة الظاهرة الدينية بالظاهرة السياسية هي ساحة ومساحة تتطلبان ميزانا حسّاسا في وزن الأمور والحادثات، وكذا وزن البيئة والسياقات، ضمن هذا التصوّر يمكن أن نتحفظ على ذلك التعبير.

كما يصل محمد حلمي عبد الوهاب في خلاصاته حول الأزهر إلى محمد عبده ومشروعه الإصلاحي، مؤكّدا أن إصلاح الأزهر كان جزءا من رؤية الإمام للإصلاح الديني ككل. ويشير إلى جانبين لمشروعه، يتعلق أولهما بحملة النقد الشديدة التي وجّهها الإمام إلى علماء الأزهر في عصره، وثانيها نقد التعليم الديني في الأزهر لجهة المنهج والموضوع. على مستوى المنهج، انتقد محمد عبده ما سمّاها الثقافة المدرسية. وعلى مستوى الموضوع، عاب خلو التعليم من العلوم العقلية والرياضية والأخلاقية والتاريخية التي ترسّخ استقلال العقل في الفهم وتهذب الوجدان والنفس. كما أكد أن تجربة محمد عبده الإصلاحية لمبدأ التجاذب مع طرفين رئيسين، سياسي (الخديوي واللورد كرومر) وديني ممثل في المحافظين والتقليديين من رجالات الأزهر، وأشار إلى أن امتدادات مدرسة الإمام سعت في مجملها إلى بث روح الإصلاح في المؤسسة الأزهرية.

انطلق من مدرسة محمد عبده ومشروعها الإصلاحي لاستعراض نتائج دراسته لمالك بن نبي؛ وقد أبدع المؤلف في قراءة متعمّقة ورشيقة؛ مؤكّدا أن المدرسة لعبت دورا مهما في تصحيح المسار الفكري لمالك بن نبي، كما بيّن حرصه على إرساء نوع من العلاقة النقدية مع الفكر الإصلاحي التي تتّضح من خلال تقويمه أبرز الوجوه الإصلاحية، وبيّن أن النقد يشغل موقعا مركزيا في رؤية مالك بن نبي، المتعلقة بمسارات الإصلاح والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر ومحاولة تقييمها. كما أشار إلى أن فكرة الماضوية احتلت مكانة مركزية في سياق نقده مشاريع النهضة، لأن الخلفية الدينية هي المؤطّر الحقيقي لمشروع النهضة، وأشار إلى الخطوة الإيجابية التي اتخذها مالك إلى الأمام، بتقديم تصوّره الخاص عن إمكانية النهوض مجدّدا والتحرّر من أسباب التخلف جملة، وبيّن ما يميز مشروع مالك بوضعه تصوّرا نظريا وعمليا لمفهوم الحضارة، خصوصا أن نظرة مالك إلى مفهوم الحضارة تتأسّس على مجموعة من الشروط أو المعايير الأخلاقية والمادّية التي يتيحها المجتمع لأفراده في مرحله ما من مراحل نموه.

دور الأزهر في ثورة يناير امتداد لدوره السياسي في ثورتي القاهرة الأولى والثانية لمواجهة الحملة الفرنسية

وأوضح الكاتب أن فلسفة مالك ترتبط ارتباطا مباشرا بسؤال الفاعلية، كما تقتضي عملية النهضة في فكر مالك عملا سلبيا يتمثل في فصل الأمة عن رواسب الماضي، وعملا إيجابيا يصلها بمقتضيات المستقبل، كما بين أهمية دلالة الآية الكريمة {إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّىٰ يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} [الرعد:11] وكيف أن مالك بن نبي بنى فكرة كتابه "شروط النهضة" عليها، كما أشار إلى تميز مالك عن غيره في أنه ينفتح على التاريخ الإسلامي، وهو مشبع بروح النقد المزوّدة بحسّ اجتماعي دقيق، تركّز على دراسة مشكلتنا الحضارية داخل دورتنا الإسلامية، على عكس الذين ناقشوا مشكلة نهضتنا من داخل الدورة الزمنية الغربية، وبين مناطق اشتراك مالك بن نبي ومحمد عبده، خصوصا في عناصر الوعي بالسنن، ربط النهوض بضرورة تغيير النفس البشرية، ومحورية التاريخ في فهم عملية النهوض ومركزية العلم والثقافة والفنون في تحقيق النهضة.

كما تناول الكاتب مشاريع الإصلاح والتجديد وعلاقة الإسلام بالغرب مبكّرا جدا في البيئات الإسلامية غير العربية، خصوصا الهندية منها، كما تناول مفهوم التعايش في تجليات ثلاثة الاجتماع، والدين، والسياسة، كما أشار إلى سياسة التسامح التي اتّبعها أغلب حكّام المسلمين في بلاد المسلمين في بلاد الأندلس تجاه العناصر غير الإسلامية وإلى إقبال المستعربين الإسبان بصفة خاصة على تلقي العلوم الإسلامية وتعليم اللغة العربية، وإن لم تسلم التجربة الأندلسية من سمات التعصّب والتشدّد العقائديين، كما تحدّث عن مبادرات الإصلاح التي تراوحت بين اتجاهات ثلاثة، أولها المسعى التوفيقي الذي هدف إلى مواءمة الوافد الغربي مع المرجعية الإسلامية، والثاني الاتجاه الليبرالي والثالث الاتجاه الأصولي. ومن نافلة القول التأكيد أن تلك الدراسة، خصوصا في واسطة عقدها، في ما اهتمت به من خرائط اتجاهات مشروعات النهوض والإصلاح، استفدنا منها حقيقة في دراسة الخرائط الفكرية التي شرعنا في رصدها.

ECE602C0-DB35-414B-9572-17B675CE3C2A
سيف الدين عبد الفتاح

كاتب وباحث مصري، مواليد 1954، أستاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة، من مؤلفاته "في النظرية السياسية من منظور إسلامي"، و" التجديد السياسي والواقع العربي المعاصر.. رؤية إسلامية".