مقدّمات التحوّل وأبعاده في المحليّات التركية
استرعت الانتخابات المحلية التي جرت أخيراً في تركيا اهتماما واسعا خارج بلاد الأناضول، وإن كانت درجة هذا الاهتمام قد انخفضت هذه المرّة، نظراً إلى استمرار الحرب الوحشية على غزّة، ولما يعتري الحرب على أوكرانيا من تطوّرات تبدو في غير صالح كييف، وكذلك لازدياد حدّة المواجهة بين إيران ودولة الاحتلال الاسرائيلي والتي بلغت ذروة جديدة لها مع القصف الإسرائيلي للقنصلية الإيرانية في دمشق.
ورغم أن هذا الاستحقاق الانتخابي في تركيا، والذي يجري كل خمس سنوات، محلي الطابع والمضمون، ويدور أساساً حول الخدمات الأساسية للمواطنين، إلا أن بعض التطوّرات الإقليمية وجدت انعكاساً لها على هذه الانتخابات، ومن ذلك أن موقف حزب العدالة والتنمية (الحاكم) إزاء الحرب على غزّة قد صادف بعض الانتقادات لدى شرائح اجتماعية محافظة، إذ إن زخم الموقف السياسي والدبلوماسي الرسمي الناقم على حكومة الاحتلال، وعلى أهميته، إلا أنه لم يقترن باتخاذ إجراءات قوية وذات مغزى من أنقرة ضد تل أبيب. وقبيل إجراء الانتخابات في اليوم الأخير من مارس/ آذار الماضي، تردّدت أنباء بأن تركيا ما زالت مصدراً رئيسياً لتوريد الخضار والفواكه إلى تل أبيب (كما هو حال الأردن أيضاً)، بل ذكرت أنباء أن تل أبيب تلقت ذخائر تركية بالتزامن مع تصاعد حرب الإبادة، وهو ما نفته وزارة الخارجية التركية من دون أن ترفق نفيها ببيانٍ يوضح طبيعة الصادرات التركية وحجمها الدقيق. وقد أفادت المعارضة التركية، ممثلةً، على الخصوص، بحزب الشعب الجمهوري، من هذه التسريبات، رغم أن هذا الحزب الأتاتوركي لا يتّخذ موقفا صلباً ضد تل أبيب وضد حربها المسعورة على غزّة (مع أن موقفه بهذا الخصوص قد تحسّن عما كان عليه في السابق)، غير أن الذي حدث أن حزباً محافظاً تحالف مع حزب العدالة والتنمية في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وهو الرفاه الجديد، قد اختار هذه المرّة خوض الانتخابات البلدية منفردا ومنتقدا الموقف الرسمي من تل أبيب، وقد حاز هذا الحزب الذي يقوده نجل السياسي الراحل نجم الدين أربكان على المركز الثالث بأكثر من 6% من مجموع الأصوات، ما أضرّ بالحصّة المتوقعة لحزب العدالة والتنمية الذي تراجع بما نسبته نحو 9% من الأصوات عما ناله في انتخابات 2019، وبما أفاد حزب الشعب إفادة ملحوظة جعلته يتبوأ المركز الأول في المدن الرئيسية الثلاث و32 مدينة أخرى، ويسيطر على عضوية المجالس البلدية في معظمها، وليس على رئاسة البلديات فحسب.
لم يول "العدالة والتنمية" الاهتمام الكافي بترشيح نساء، لا لرئاسة البلديات ولا لعضوية المجالس
وقد اعترف الرئيس رجب طيب أردوغان بالتراجع واعتبره "نقطة تحوّل"، وأخذ على حزبه أنه أقام أحياناً جدران بينه وبين الشعب. ونظراً إلى موقعه على رأس البلاد والسلطات، إضافة إلى رئاسته الحزب، فلا شك أنه يتحمّل مسؤولية عما جرى في أول تراجع بهذا المستوى يُمنى به الحزب الحاكم منذ 22 عاماً. وثمة بعدئذ ملاحظات وخلاصات تحليلية بشأن هذه النتائج، منها: ـ التضخّم الذي تشهده البلاد، وتراجع القوة الشرائية للعملة الوطنية، والتي ازدادت وتيرتُها بعد فوز حزب العدالة والتنمية في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في مايو/ أيار الماضي، أدّيا إلى فقدان حزب العدالة نسبة معتبرة من ثقة مؤيديه، وبالذات فئة المتقاعدين، ويشكل هؤلاء شريحة كبيرة في المجتمع، وبتعداد يصل إلى 15 مليون متقاعد.
ـــ رغم أن الأتراك من أصول كردية ترشّحوا بصورة مستقلة، إلا أن أصواتهم توزّعت بين حزبهم (المساواة وديمقراطية الشعوب) وحزب الشعب الجمهوري، مع نسبة ضئيلة ذهبت إلى حزب العدالة والتمنية، وكان لاعتقال رموز من الحركة الكردية، بعضهم نواب ورؤساء بلديات، فترات طويلة، دور في تقلص فرص "العدالة والتنمية"، وقد حل الحزب الكردي في المرتبة الرابعة.
من المظاهر الإيجابية للانتخابات المحلية التي انتظمت أخيراً أن الحملة ضد اللاجئين، وبالذات السوريين، قد انحسرت في الحملات الانتخابية
ــ لم ينجح "العدالة والتنمية" في إقامة تحالفات حزبية باستثناء تحالفه الدائم مع حزب الحركة القومية الذي حلّ في المركز الخامس، ما أضعف فرصه في الفوز.
ــ لم يول "العدالة والتنمية" الاهتمام الكافي بترشيح نساء، لا لرئاسة البلديات ولا لعضوية المجالس، وعدد هذه يناهز 3300 بلدية، سوى بما نسبته 2،2%، مقابل 9،3% لحزب الشعب الجمهوري، بينما ضم الحزب الكردي ما نسبته 31% من المترشّحات. بما جعل هذه الانتخابات في أداء حزب العدالة والتنمية شأنا ذكورياً، ما يثير الانطباع بأن الحزب يزداد محافظة على هذا الصعيد، وهو أمرٌ سابق على الانتخابات البلدية، إذ إن الحكومة الحالية التي شكّلها أردوغان، عقب الانتخابات الرئاسية والرلمانية، قد ضمّت وزيرة واحدة تُعنى بشؤون المرأة والأسرة من بين 18 وزيراً، وإذ جرت محاولة تعويض ذلك بتعيين سيّدة شابة على رأس البنك المركزي النركي، إلا أن هذه السيدة، وهي حفيظة جاي، لم تلبث سوى بضعة أشهر في منصبها، إذ جرى دفعها إلى الاستقالة. وتحظى مكانة المرأة بأهمية كبيرة في تركيا الحديثة، وبالذات في عشرات المدن الكبيرة والمتوسطة، وسبق أن ترأست سيدة، هي طانسو تشيلر، الحكومة في مطلع تسعينات القرن الماضي.
ـــ من الوقائع الأخرى ذات الأهمية أن حزب العدالة والتنمية أخذ يتركّز أكثر فأكثر حول شخص الرئيس الذي يقود البلاد ومجلس الوزراء، كما يتزعم الحزب الحاكم، وقد كان للتغيير في قيادة حزب الشعب الجمهوري بانتخاب أوزغور أوزيل على رأس الحزب بديلاً لكمال كليجدار أوغلو، في نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أثره الإيجابي في رفع حظوظ هذا الحزب في الانتخابات المحلية أخيراً على حساب حزب العدالة والتنمية.
حزب العدالة والتنمية يستحوذ على الحكم والحكومة والبرلمان، والمعارضة تستأثر بالبلديات والمجتمع المحلي والمجتمع المدني
ــ من المظاهر الإيجابية للانتخابات المحلية التي انتظمت أخيراً أن الحملة ضد اللاجئين، وبالذات السوريين، قد انحسرت في الحملات الانتخابية، خلافا لما كان عليه الحال في الانتخابات البرلمانية والرئاسية، وبالذات من حزب الشعب الجمهوري، ولعل تأثيراً غير مباشر كان للحرب على غزّة لكنه مهم على هذه المسألة، إذ بدا أن من غير المستحبّ، بل من غير اللائق معاودة الحملة ضد لاجئين ينتمون لشعبٍ منكوب، فيما تحل النكبة بشعب مسلم آخر. ويسترعي الانتباه أن حزب الظفر رأس الحربة في الحملة العنصرية على اللاجئين السوريين قد مُني بهزيمة مدويّة، إذ لم يتمثل في أية بلدية، ما حدا برئيسه أوميت أوزداغ إلى القول إن الأتراك لم يعودوا يبالون بتأثير وجود اللاجئين بينهم!
وفي المحصلة، زادت نتائج هذه الانتخابات من وتيرة الاستقطاب الحادّ في الحياة العامة، فحزب العدالة والتنمية يستحوذ على الحكم والحكومة والبرلمان، والمعارضة تستأثر بالبلديات والمجتمع المحلي والمجتمع المدني، وهو ما سوف يتواصل حتى العام 2028، موعد الانتخابات العامة، في أجواء من التحوّل قد تؤدّي لاحقاً إلى تغيير، إلا إذا أبدى الفريقان استعداداً للتجسير بينهما عبر المشاركة في حكومة ائتلافية تعكس الأوزان التمثيلية للقوى الحزبية والاجتماعية، وهو ما يتطلّب مبادرات من الطرفين، وبالذات من المعارضة التي واظبت على نهج الإحجام عن المشاركة في الحكومات منذ أزيد من عقدين.