مقاطع من إيران ... الثورة وغيرها
تشكّل الانتفاضات الشعبية التي تخوضها المجتمعات حالة قطيعة مع السلطة الحاكمة ومنظومتها، وفي أحيان أخرى أشكال البنى الاجتماعية التي ولّدتها السلطة في المجتمع، بحيث تكون مضامين الحراك الشعبي جوهر تغيير حقيقي تتقاطع عنده مصالح طبقات المجتمع، مقابل نزع المشروعية من السلطة، ومحاولة استرداد موقع الشعب مصدرا للسلطة ومانحها، وإذا كان لكل انتفاضة شعبية ملامحها الخاصة وقواها التي تحرّكها وتسيطر عليها، فإن صدقيتها ومن ثم استمراريتها رهن بمدى تمثيلها مطالب المجتمع، والأهم الفئات الهامشية التي ظلت محرومةً من حقوقها، وتقدّم تجارب الاحتجاجات الشعبية التي شهدتها المنطقة، على اختلاف مآلاتها، مثالا حيوياً على هيمنة مصالح القوى المتصدّرة للاحتجاجات، على حساب مطالب شرائح واسعة من المجتمع، بحيث تماثلت بنية الاحتجاجات مع بنية هذه القوى، وهو ما أفضى في الأخير إلى تجييرها لصالحها، خلافا لحركة الاحتجاجات الإيرانية التي قادتها قوى الهامش المستبعدة، لا من السلطة فقط، بل أيضا من الفضاء الاجتماعي، بما في ذلك مصادرة حرياتها الشخصية، ومن ثم حملت على عاتقها الدفاع عن الحريات في مواجهة قمع سلطة مركبة: دينية - سياسية خانقة للمجال العام والشخصي. ومع أن من الصعب التكهن في المسارات المستقبلية لاحتجاجات إيران، فإن انتفاض المجتمع، بمختلف أطيافه، على حكم رجال الدين يعني خلخلة أسسه السياسية والمجتمعية التي يعتمد عليها.
يجسّد النظام الإيراني شكل النظام الثيوقراطي وطبيعته، حيث تشكّل السلطة الدينية والسياسية مركبا سلطوياً واحداً
يجسّد النظام الإيراني شكل النظام الثيوقراطي وطبيعته، حيث تشكّل السلطة الدينية والسياسية مركبا سلطوياً واحداً، إذ حكمت عقيدة السلطة الدينية كل مظاهر الحياة الإيرانية، بما في ذلك علاقتها مع الإقليم، داخلياً. عزّز ذلك من هيمنة رجال الدين الشيعة على الحياة السياسية والاجتماعية، مقابل فرض اللون الواحد على المجتمع الإيراني، بحيث أصبح المذهب القانون الأعلى الذي ينظّم حياة المواطنين، إلى جانب تحويل المجتمع الإيراني إلى رافعة للإسلام الشيعي، وذلك بتكريسه مركز ثقله السياسي في الإقليم، وهو ما أدّى إلى صبغ المجتمع بالصبغة المذهبية، إلى جانب تبعات ذلك على حياتهم ومستوى معيشتهم، إذ إن إدارة النظام الإيراني معركته الخارجية من منطلق الصراع المذهبي، إيران الشيعية مقابل السعودية السنية، حول جزءا من موارد إيران لتمويل تدخلاته، على حساب الإيرانيين. إقليميا أيضا، كان لأيديولوجية النظام الإيراني وعقيدته التوسّعية تبعات عديدة على مواطنيه، فمن حربه في العراق في ثمانينيات القرن المنصرم إلى خوض حربٍ دفاعا عن النظام السوري، ثم تمويل وكلائه، سواء في العراق ولبنان وأخيرا في اليمن، وإن كانت هذه التدخلات بهدف الهرب من معالجة أزماته الداخلية أكثر من كونها تأكيدا لنفوذه الإقليمي، ومن جهة أخرى، ضاعف حرص النظام الإيراني على توجيه موارد الدولة إلى الشقّ العسكري من تردّي الأوضاع الاقتصادية للمواطنين، إلى جانب العقوبات المترتّبة على أنشطته النووية. ومن ثم، في مقابل استمرار إخضاع المجتمع لكلفة حروب النظام وأنشطته العسكرية، واصل نهجه في مصادرة الحريات الشخصية والمدنية، وبالطبع السياسية، وفرض نموذجه الديني المتشدّد على المرأة، كفرض ارتداء الحجاب وتقييد نشاطها المجتمعي، ومن ثم ولّد ذلك هزّات اجتماعية، حيث واكبت الاحتجاجات الشعبية أزمات النظام في السنوات الأخيرة، وإن امتصّ صدماتها، إلا أن الوضع في إيران ظلّ غير مستقرٍّ سياسيا واجتماعيا، ومن ثم أي جريمة جديدة من السلطة ستكون الشرارة التي تدفع المسحوقين إلى الشارع.
تجربة متجذّرة للحركة النسوية الإيرانية تستمدّ عراقتها من المكاسب التي تحصّلت عليها قبل الثورة الإيرانية في سبعينيات القرن المنصرم
قُتلت، في السادس عشر من شهر ستمبر/ أيلول الماضي، الشابّة الإيرانية الكردية، مهسا أميني (19 سنة)، على يد شرطة الأخلاق الإيرانية. ومع أن الجريمة لم تكن الأولى التي يرتكبها النظام الإيراني في حق النساء، حيث خضعن عقودا لسياسةٍ منهجيةٍ من العداء وسلب الحقوق، أسفرت عن تعرّض ناشطاتٍ نسوياتٍ للقتل والتعذيب والاعتقال، فإن تبرير السلطة الجريمة بحجّة عدم تقيد الضحية بشروط الحجاب الإسلامي أحدث حالةً من الغضب، تجاوزت التعاطف مع الضحية إلى ثورةٍ احتجاجيةٍ عارمة ضد النظام، اتخذت منعطفا حادّا في العلاقة ما بين المتظاهرين والنظام، فبعد نحو ما يزيد على مائة يوم من مقتل الشابة مهسا ما زالت المظاهرات الاحتجاجية التي تصدّرتها النساء متواصلةً في إيران، إلى جانب اتّساع رقعتها، وهو ما يميّزها عن الاحتجاجات المتقطّعة التي شهدتها إيران في السنوات الأخيرة، إذ كسرت حالة الغضب من تعاطي النظام مع جريمة قتل مهسا، وتصاعد القمع، الخوف ودفعت المتظاهرين إلى تحدّي المؤسّسة الدينية، سواء بخلع الحجاب أو إسقاط عمائم رجال الدين، إلى التصدّي لعناصر الأمن الإيراني، إلى جانب دخول الجاليات الإيرانية في الخارج في خط التظاهر الشعبي عبر الوقفات الاحتجاجية المعارضة للنظام. وفي حين يظلّ الملمح الأبرز للاحتجاجات هو الدور الكبير الذي لعبته وتلعبه المرأة الإيرانية، حيث أعاد نضال النساء إلى الواجهة، فإن التجربة المتجذّرة للحركة النسوية الإيرانية التي تستمدّ عراقتها من المكاسب التي تحصّلت عليها قبل الثورة الإيرانية في سبعينيات القرن المنصرم، إلى جانب أن النظام الحالي، القائم على سلطة رجال الدين، يركّز عنفه السلطوي باتجاه المرأة من مصادرة حقوقها، إلى فرض أشكالٍ من المنع والتعدّي على حرياتها الشخصية، وإن تماثل مع نهج القوى الدينية السنية والشيعية على السواء من تنظيم القاعدة وحركة طالبان إلى جماعة الحوثي في اليمن.
يبدو النظام الإيراني أكثر إرباكا وتخبّطا من أي وقت مضي، حيث يواجه أعتى احتجاجاتٍ شعبيةٍ مناوئة له طاولت رموزه الدينية ومؤسساتها
وفي محاولة سيطرته على الاحتجاجات الشعبية وإخضاعه لها، لجأ النظام الإيراني إلى تصعيد الصراع القومي، وذلك بتسويقها بوصفها حركة تمرّد كرديٍّ وقصف القوات الإيرانية المواقع الكردية في المناطق الحدودية مع العراق، إلا أن انخراط معظم القوميات في إيران في التظاهرات فوّت على النظام فرصة استثمارها. ومن جهة أخرى، ضاعف النظام من وسائله في قمع المتظاهرين وإرهابهم والتنكيل بهم، والتي أسفرت، إلى كتابة هذه السطور، عن مقتل خمسمائة مواطن، منهم مائة طفل، إلى جانب إصدار أحكام الإعدامات، اعتقال آلاف من المواطنين، فضلا عن اتهام الدول الإقليمية والغربية بتمويل التظاهرات، في محاولةٍ يائسةٍ من النظام لسحق التظاهرات وامتصاص الصدمة.
يراهن النظام الإيراني على كسب معركته ضد شعبه بعزل الاحتجاجات الإيرانية عن أنظار العالم. وكأي نظام قمعي، يراهن على قدرة البطش في إخضاع الإيرانيين لسلطته، وإن وعد المتظاهرين بحلّ شرطة الأخلاق سيئة الصيت. وعلى عامل الوقت الذي قد يفضي إلى تحجيم التظاهرات. والأهم من ذلك توجيه معركته إلى ملفّات أخرى، تعزّز سلطته الداخلية، فإلى جانب تحريك وكلائه في المنطقة للضغط على خصومه أو على الأقل تحييدهم من التعاطف مع الاحتجاجات، سيسعى النظام الإيراني إلى إدارة التوترات الإقليمية والدولية في هذا الظرف لصالح تعزيز مركزه، فمن تصعيد خطابه ضد السعودية التي يتهمها بتمويل التظاهرات، إلى إنعاش دوره في الملف اليمني، وذلك بالتأكيد على ضرورة تمديد الهدنة المنتهية، وثم التلويح بالورقة اليمنية في مواجهة السعودية. ومع أن من الصعب التكهّن بالخيار الذي سيلجأ له النظام الإيراني إقليميا على الأقل، أي نحو التصعيد أو تخفيض الصراع، سواء بشكل مباشر أو من خلال وكلائه في حال استمرّت التظاهرات ضدّه، فإنه يبدو أكثر إرباكا وتخبّطا من أي وقت مضي، حيث يواجه أعتى احتجاجاتٍ شعبيةٍ مناوئة له طاولت رموزه الدينية ومؤسساتها. في كل الأحوال، ومهما راهن النظام على العوامل الإقليمية والدولية التي تسنده، وبطشه في المتظاهرين، فعليه أن يدرك أن ما قبل مقتل مهسا أميني ليس كما بعدها.