مغيّبون ومغدورون

13 ديسمبر 2022

(نوري الراوي)

+ الخط -

عشية الذكرى الخامسة للانتصار على تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، فجّر رئيس مجلس النواب العراقي، محمد الحلبوسي، ما يشبه القنبلة الإعلامية في ظهور تلفزيوني له أخيرا على قناة الرشيد الفضائية، حين أراد أن يكون صريحاً مع جمهوره، فطلب تغيير تسمية "المغيّبين" إلى "المغدورين"، في إشارة إلى واحدٍ من أكثر الملفات سخونةً في حياة سكّان المدن التي كانت خاضعة لسيطرة "داعش"، في محافظات الموصل وصلاح الدين والأنبار، فحصيلة سنوات من القتال ما بين هذا التنظيم الإرهابي والقوات الأمنية العراقية بمختلف صنوفها تقترب من 11 ألف مغّيب من المدنيين، لا يعرف أهلهم عنهم شيئاً، حسب المرصد العراقي لحقوق الإنسان.
وعلى الرغم من إقرار ضمني من كثيرين معنيين بهذا الملف الحسّاس بأن المغيبين هم مغدورون فعلاً، وأن الجهات التي خطفتهم لا يمكن أن تبقى تحتفظ بهم كل هذه السنوات، إلا أن تبنّي هذا الأمر حقيقة من رئيس الهرم في السلطة التشريعية، وأعلى شخصية سياسية سنيّة نفوذاً في العراق، أحدث ما يشبه الخيبة في نفوس كثيرين من الأهالي الذين ظهر بعضهم في وقفات احتجاجية على كلام الحلبوسي.
كما أن الطريقة التي طرح بها الموضوع كانت مستفزّة، أشعرت المتابع بأنه مجرّد ملف قليل الأهمية ويجب التخلص منه، من خلال منح تعويضات لأهالي الضحايا، من دون أي جهد لمعرفة مصير هؤلاء الضحايا، وأين هي جثثهم، ومن المتسبّب في مقتلهم.
في المتداول؛ أن هناك ثلاث جهات أو مسببات خلّفت هذا العدد الكبير من المغيّبين. الجهة الأولى تنظيم داعش الذي احتفط بأفراد عديدين وغيّبهم لأسباب شتّى. وتأتي العمليات العسكرية ووقوع المدنيين بين تقاطع نيران المتقاتلين لتكون المسبب الثاني في فقدان المدنيين وفشل أهاليهم في التعرّف على مصائرهم. أما العامل الثالث فهو العمليات الانتقامية التي قامت بها المليشيات الشيعية ضد المدنيين السنّة، وتحديداً بعد مأساة معسكر سبايكر في تكريت، والذي راح ضحيته مئات من المتطوّعين الشيعة في صفوف الأجهزة الأمنية، فقامت المليشيات الشيعية لاحقاً بعمليات انتقام صريحة، جرى توثيقها بالفيديو، وجمع فيها الرجال والشباب بشكل عشوائي، ليُساقوا إلى حتفهم في ما بعد. ويزعم كثيرون من المراقبين لهذا الملف أن هناك مقابر جماعية عديدة لهؤلاء الشباب المغدورين، ولا يعرف أماكنها إلا المليشيات المتهمة بقتلهم.
كان كثيرون ينتظرون أن يتحدّث أكبر زعيم سياسي سنّي بشكل صريح عن هذه التفصيلة، ما دام ادعى، في بداية كلامه، أنه يريد مصارحة الجمهور بالحقيقة، ولكنه فضل أن يبدو الأمر وكأن تحوّلهم من "مغيبين" إلى "مغدورين" كان قضاءً وقدراً!
أما الجاني فيصدق عليه قول الآية القرآنية العاشرة من سورة المائدة "... لا تسألوا عن أشياء إن تبدُ لكم تسؤكم"، فالحلبوسي يريد أن يكون صريحاً مع جمهوره، ولكنه لا يريد إخباره بالجهة التي حوّلت منطقة جرف الصخر إلى معسكر لها بعد تهجير سكّانها، ولا يستطيع أي أحد في العراق أن يُخرج هذه الجهة المسلحة من المنطقة، ويعيد سكّانها بعد خمس سنواتٍ من انتهاء العمليات العسكرية. ومع الإقرار المريح للحلبوسي بهذه الحقيقة، فإنه يريد من مستمعي كلامه أن يصدّقوا أنه وفصيله السياسي قادران على فرض مطالبهما الأخرى على الشركاء الآخرين.
لا يستطيع إعادة السكّان المهجرين من دون وجه حق إلى ديارهم، ولا يستطيع الكشف عن الجهة التي غيّبت المغيبين وحولتهم إلى ضحايا، ويريدنا أن نصدّق أنه يستطيع تحقيق المطالب الأخرى، ومن أهمها إعادة فتح ملف السجناء بتهم كيدية ووشايات المخبر السرّي تتعلق بالإرهاب، وإقرار قانون عفو عام جديد، أو توسيع صلاحيات القانون السابق.
المؤكّد الذي يريد الحلبوسي وبقية النافذين من الساسة السنّة طلبه من جمهورهم أن يساعدوهم في تدوير أنفسهم داخل "حصّتهم" من كعكة السلطة، بأقلّ ما يمكن من مشكلات مع الماسك الفعلي للسلطة، وهم أقلية من تيارات الإسلام السياسي المقرّبة من إيران، التي أقصت بالتدريج كل التنويعات السياسية الأخرى داخل الدائرة الاجتماعية، الشيعية والسنية، وصارت هي التي تملي وتفرض شروط العمل السياسي في العراق اليوم. وليس أمام الحلبوسي، وبقية جوقة الساسة السنّة، سوى المسايرة وإطلاق تصريحاتٍ تثير الزوابع في فناجين فارغة.

أحمد سعداوي
أحمد سعداوي
كاتب وروائي عراقي