مسار النخب الشيعية في العراق
عانى الشيعة العراقيون، بعدّهم طيفاً اجتماعياً ذا لون طائفي وثقافي مُحدّد، أشكالاً من التمييز والاضطهاد في مدى عقود الدولة العراقية الحديثة. وقد نختلف بشأن حجم هذه المعاناة ومساحتها، وهل هي خاصّة أم يشترك فيها جميع العراقيين. ولكنّها في كلّ الأحوال ليست بالوصف الذي تقدّمه سردية الأحزاب الشيعية الإسلامية في الوقت الراهن، وهي سرديةٌ تشوبها كثير من المبالغات والتعمية على الحقائق والتأطير الأيديولوجي الذي يلوي عُنق التاريخ كي يطابق التصوّرات العقائدية المُسبقة.
هناك مخاضٌ سياسيٌّ واجتماعيٌّ خاضته النُخَب العراقية ذات الخلفية الشيعية، منذ بدايات القرن العشرين، من منطلقات فكرية وسياسية مُختلفة، كان يسعى إلى توسيع المشاركة الشيعية، وما هو أكثر أهمّية؛ المطابقة والمواءمة قدر الإمكان بين التطلّعات الخاصّة بالشيعة وأهداف الدولة العراقية الحديثة وبرامجها. لم يكن هذا طريقاً مفروشاً بالورود دائماً، وكانت الجماعات العراقية الأخرى تخوض صراعها الخاصّ أيضاً، وقد تتصادم مساعي الجماعات المختلفة، ولكنّ الضابط كان الإطار الوطني الذي يريد دمج الجميع في بنية الدولة، وألّا يُرسّخ أيّ منحى تمييزي صارخ.
كانت النخب الشيعية ذات التوجّه القومي الليبرالي في عهد المملكة العراقية فاعلة وحاضرة في كلّ مفاصل صنع القرار، ولم تكن مُجرّد مشاركة فردية، وإنّما رؤية منتشرة بين أوساط النخب الشيعية عن الإيمان بالدولة الحديثة، ودفع الاختلافات المذهبية خلف باب الدولة، خصوصاً أنّ رأس الدولة (الملك فيصل الأول) لم يطبّق رؤية دينية طائفية، وإنّما علمانية تحديثية، يشترك مع العراقيين السنّة في الانتماء المذهبي، ومع الشيعة في الأصل الهاشمي العلوي، ويُؤطّر هذه التفاصيل بالانتماء إلى العروبة الليّنة المُعتدلة، غير المُتطرّفة (كما في تيارات البعث، والناصريين لاحقاً). ولم يكن هذا المسعى ناجحاً على الدوام، ولا مثالياً، خصوصاً إذا نظرنا إلى المشكلة الكردية المزمنة.
على هامش عمل الدولة المؤسّسي، كان الشيعة يهيمنون على أبرز حزبَين معارضَين: البعث العربي الاشتراكي، جلبه إلى العراق ووطّنه عبد الخالق الركابي، وهو شيعيّ من الناصرية، والحزب الشيوعي، حيث أنجبت النجف، وهي معقل الشيعة، عديدين من أعضاء اللجنة المركزية للحزب الذي غدا، بعد عقود، أشبه ما يكون بالحزب الشيعي، لغلبة الشيعة على كوادره.
يتجاهل مؤيّدو السردية الإسلامية الشيعية، اليوم، كلّ تعقيدات التاريخ، لينتهوا إلى خلاصة مريحة لهم: أنّ هذه كلها كانت محاولات لدمج الشيعة بالدولة، ولكنّها فشلت، والمحاولة البديلة هي التوجّه الإسلامي. وقد تعرّض هذا التوجّه، أيضاً، للاضطهاد في الدولة العراقية، وانتهينا إلى آخر نسخة؛ وهي الارتماء في حضن الوليّ الفقيه الإيراني. غير أنّ هناك معضلة أساسية في هذا التصوّر؛ أنّ مسار النخب الشيعية السياسي والاجتماعي، في مدى 80 عاماً، كان يسعى إلى مشاركة أكبر في قيادة الدولة، وتمثيل أكبر للقواعد الاجتماعية ومتطلّباتها الحياتية، وهي ليست في غالبها متطلّبات طائفية، وإنّما إنسانية. وقد كان هذا الهدف يقرّب النخب الشيعية من كلّ الجماعات المُهمّشة أو المُضيّق عليها، من الكُرد والسريان والتركمان، وكذلك، الأطياف السياسية المُستبعَدة والمغضوب عليها من النظام.
النتيجة النهائية لهذا المسعى، لو كان له أن ينجح، هي بناء نظام ديمقراطي عادل، تؤدي فيه النخب الشيعية السياسية أدواراً أساسيّة، بحكم الغلبة الديمغرافية للشيعة في العراق، ويكونون هم أشبه بالأوصياء على فاعلية النظام الديمقراطي، وقدرته على تحقيق العدالة والمساواة ورفع الظلم والحيف، وهي أشياء يُفترض أنّ الشيعة عانوا منها، ويستطيعون تمثّل آثارها لدى شركائهم في الوطن.
هذا هو المسار الأصلي للنخب الشيعية، ولا علاقة له بفكرة الهيمنة التي توفّرها قبضة الوليّ الفقيه، فهذه القبضة تجعل الاستقرار في النظام السياسي والوضع العام في البلد مرهوناً بقوّة القبضة، لا بالأسباب الداخلية العميقة التي تخصّ مصالح الجماعات والمكوّنات، وشراكتها في صنع القرار والثروة والتنمية.