مع تراجع حرية الصحافة: تونس ترتدّ
يرفض الرئيس التونسي، قيس سعيّد، الانتقادات الموجّهة إلى نظامه واتهامه بالمسّ بالحريات، وخصوصاً حرية الصحافة. وهو لا يكتفي بالشجب ونفي تلك الاتهامات، بل يذهب إلى ما هو أبعد، حين يقلب المعادلة، ويضع منتقديه أمام خانتين فظيعتين عندما يقول "من يشكّك في الحريات إما عميل أو مصاب بغيبوبة فكرية". وبالتالي، على كل من يريد التطرّق إلى هذه المسألة أن يكون شديد الحذر، حتى لا يجد نفسه تحت مقصلة المرسوم 54 سيئ الذكر، والذي فتح أبواب جهنم على الجميع، وجعل أيا كان معرّضاً ليجد نفسه في السجن أو ملاحقا خارج بلاده.
كان يوم حرية الصحافة العالمي فرصة سنوية لدعم الإعلام وحرية التعبير، بعد أن أصبحت تونس عضوا في نادي الدول التي تتمتع بحريات إعلامية واسعة النطاق، ثم إذا به يصبح مناسبة للكشف عن التراجع الكبير في حرية الصحافة في تونس.
يتحدّى الرئيس خصومه بقوله، في أكثر من مناسبة، أن يذكروا اسم صحافي واحد حوسب على رأيٍ أبداه، فتجيبه نقابة الصحافيين التونسيين بأنها رصدت 17 قضية ضد صحافيين على خلفية آرائهم. وقالت نائبة رئيس النقابة أميرة محمد إن القطاع الإعلامي في "وضع كارثي"، وإن رئيس الجمهورية "هو المسؤول الأول عن هذا الوضع، عن تفاقم السلوك العدائي ضد الصحافيين من خلال المحاكمات التي تلاحق كل صوتٍ حرّ يعبر عن رأيه أو موقف سياسي". ووصفت الرئيس سعيّد ووزيري العدل والداخلية بأنهم "أعداء حرية الصحافة". وإذا انتقلنا من المستوى المحلي إلى المستوى الدولي، يلاحَظ أن التقرير السنوي الذي تعدّه دورياً منظمة مراسلون بلا حدود كشف عن تراجع تونس في حرية الصحافة 27 مرتبة دفعة واحدة. وأعادته المنظمة إلى "ازدياد السلطوية في البلاد وعدم التسامح مع انتقادات الصحافة".
هكذا يبدو المشهد اليوم. يمكن للسلطة أن تُنكر كل هذه الشهادات وغيرها، لكن الواقع مؤلم ومُفزع، ولا يستطيع أي كان أن ينفيه أو يتجاهله. يمكن أن يتآمر شخص أو مجموعة أشخاص ضد رئيس الدولة، لكن أن يتفق العالم كله بشأن تقييم الوضع الراهن في تونس، وإن كانت أطراف عديدة تلتزم الصمت، فهذا دليل على أن الأزمة تتفاقم يوما بعد يوم.
عندما يصاب الإنسان بمرض مفاجئ، يقع الإسراع به إلى طبيب لفحصه، وقد يكتشف مؤشّرات خطيرة قد تهدّد حياته، عندما يجده جسما هشّا وقابلا للانهيار. لقد أصبحت تونس مثل هذا الجسم المتعب جدا. لا يكاد أسبوعٌ يمرّ حتى يفتح ملف جديد يكشف عمق الأزمة، فمباراة كرة قدم تحولت إلى عنف، ورفع الغطاء عن تورّط أطراف أمنية وحزبية. ووجد وزير داخلية سابق، كان قبل أسابيع قليلة من أكثر المقرّبين لرئيس البلاد، ليجد نفسه يُحقّق معه في ملفٍّ لا يزال غامضا ومثيرا. وقبل أيام، يُفتتح معرض تونس الدولي للكتاب، وفي يومه الأول، تنفجر قضية كتاب "فرنكشتاين تونس" الذي يهاجم قيس سعيّد ويتهمه بالاستبداد. ولأول مرة في تاريخ المعرض، تتضامن دور النشر التونسية، وحتى بعض الدور الأجنبية، مع دار النشر التي سُحب منها الكتاب، وأثار ذلك ضجّة داخل تونس وخارجها، بسبب عودة الرقابة، ما دفع الرئيس إلى تكذيب ذلك في استعراض مشهدي. وبعد أيام قليلة، تضجّ الأوساط الحقوقية والسياسية بخبر إحالة مجموعة جديدة من المحامين على التحقيق القضائي، بسبب مواقفهم المناهضة لرئيس الدولة، منهم رئيسة لجنة المساواة والحريات الفردية بشرى بلحاج أحميدة، والناطق باسم جبهة الخلاص المعارضة أحمد نجيب الشابي، وعياشي الهمامي.
وليست هذه الأحداث سوى عيّنة من عشراتٍ أخرى، تدلّ على أن تونس تترنّح وتسير نحو نهاية مجهولة، لكنها كارثية، فحالة الاختناق والانقباض التي يمرّ بها الصحافيون التونسيون وغيرهم مرشّحة لتطول وتتعمّق، بحكم مهنتهم التي تقتضي منهم رصد الواقع، وتشريحه والكشف عن خلفياته. لا صحافة بدون حرية، ولا حرية مع الشعور بالخوف والملاحقة. إنها الرصاصة الأخيرة ضد الثورة.