مسؤولية بناء مجتمع محلّي في سورية
لا يستطيع السياسيون بناء المجتمعات المنهارة. المواطنون فقط يقدرون على ذلك. هذه حقيقة يمليها الواقع، فكيف إذا كان هذا الواقع نموذجًا من مجتمعاتنا المنهارة وأوطاننا المدمّرة، ومواطنينا الذين لم يفلحوا بعد في فهم معنى المواطنة ولم يعيشوها حتى يستنبطوا من عيشهم مفهومها؟ وكيف إذا كانت تحكُمهم أنظمةٌ اجتماعيةٌ ودينيةٌ وسياسية أدمنت التسلّط والاستبداد والطغيان وكمّ الأفواه ومحاصرة الفكر؟ يبدو السؤال مقلقًا لفردٍ ينتمي إلى هذه المنظومة المحصورة في أوطانٍ على هذه الشاكلة، فمجتمعاتنا انهارت حقيقة، وليس من قبيل البلاغة في القول. لم يبدأ الانهيار فجأة، بل منذ عقود، عندما تم السطو على حياتها ومحاصرتها في فكرها وثقافتها وتعبيرها عن ذاتها، ثم جاءت العشرية الأخيرة، وما حملت من عنف ممنهج ودمار بنى الدولة والمجتمع وتكريس الانقسام والتشظّي بين فئات الشعب، ثم الانحدار المعيشي إلى أدنى الدرجات التي يمكن أن تحتملها الكائنات الحية، فأصابت المنظومة القيمية التي كانت حتى وقت قريب تفعل فعلها في ضبط المجتمع أكثر بكثيرٍ مما تفعل القوانين والأجهزة المخوّلة بحماية انتظام الحياة في المجتمع. إن كانت هناك بعض القيم الموروثة تتلّخص في مفاهيم محدّدة، مثل الأمانة والفضيلة والكرم والإيثار والتعاون وحب الجار والتسامح والمغفرة والصدق، ومنها المنبوذة كالعار والكذب والسرقة والجريمة والنفاق والغشّ والطعن في الظهر والكيد والنميمة والفتنة وغيرها الكثير، فإن هذه السنوات الدامية الحارقة المدمّرة قلبت الموازين وطمست القيم الفاضلة، بل دفنتها في عمقٍ سحيق، لتصبح الذرائعية أداةً تبرّر كل ما يمكن للبشر ممارسته من السلوك الشائن، مدفوعين بمبرّر دامغ، البقاء، في وقتٍ صار البقاء وحده غاية الحياة، مهما كان نوع هذا البقاء، ومهما افتقر لشروط الحياة الإنسانية والمنتجة، مع الشعور المتعاظم لدى الغالبية بالتخلّي عنها.
الشعور الوطني بني، في السابق، على الشعارات الطنّانة والأوهام والتضليل والأوهام والتضليل
كيف يمكن بناء مجتمع محلي، في الأصل كان مهلهلًا واليوم صار نتفًا، ثم إعادة ترسيخ قدرٍ لا بأس به من القيم المشتركة، أو صياغة رؤيةٍ مشتركةٍ لما يُعتقد أنه يشكّل الصالح العام والمستقبل، بما يتوفّر عليه من مستوى التعافي بالنسبة للمجتمع؟ هذا هاجسٌ لا يهمّ السطات المتحكّمة بمقادير الناس، أو السياسة الممارسة بشكلها الحالي، حتى ولا بأي شكل، فبناء المجتمع وفق قيم عليا ليس همَّ السياسيين في الدرجة الأولى، بل همّهم يتركّز على ضبط الحياة العامة والسيطرة على المجال العام.
وكيف يمكن ترويج مفهوم المجتمع المدني، وجعله ركنًا من الثقافة العامة للناس ويسعون إلى تمثّلها؟ وهذا لا يتحقق من دون القوانين الضامنة للحقوق، وأن يشعر كل فردٍ بأن حقوقه مصانة، ويعرف أن للآخر حقوقه أيضًا، وهذا يعزّز من القدرة على العمل المجتمعي، وينمّي الروح الوطنية بعد وضعها على المسار الصحيح، إذ إن هذه الروح (أو الشعور الوطني) بنيت، في السابق، على الشعارات الطنّانة والأوهام والتضليل، بالتوازي مع ازدهار الشعور بالهزيمة والانكسار بعد الحروب العديدة الخاسرة، مع بقاء القضية متوّجةً على عرش الوطنية والقومية من دون أي إنجاز، مزيدًا عليها تنامي القبضة الحديدية على الشعب، أفرادًا ومجتمعاتٍ، مع تركه لاستنقاعه المديد وغرقه في مشكلاته المتعاظمة، وجنوحه المتزايد أمام أعين المسؤولين عن إدارة الحياة الجمعية ضمن البلاد، نحو تبنّي منظومات قيمية ومعرفية وحياتية بديلة عديدة، متعلّقة بالجماعة أو القبيلة أو الطائفة، أو كل نظام تجاوزته الدول، خصوصًا الحديثة.
الحل السياسي في سورية لم يعد إمكانيةً محليةً منذ سنوات، بل صار القرار مرتهنًا للقوى المهيمنة على الأرض
كيف يمكن إعادة الثقة بين الفرد والدولة، وردم الهوّة التي صارت ساحقة بينه وبينها؟ بل كيف يمكن إعادة بناء الوعي بالدولة، وتوفير أسس العقد الاجتماعي معها، وقد عملت العقود المنصرمة على تمييع معنى الدولة، وهو لم يكن قد اكتمل تأسيسه أصلًا في الثقافة المجتمعية وفي الممارسة، وإدماجها بمعنى الوطن والنظام، أو الرئيس في بعض الحالات؟
كيف يمكن حلحلة الاستقطاب السياسي في المجتمع، وتبيان مدى التأثير السلبي للاصطفاف خلف الزعماء والقادة والعقائد والأيديولوجيا، وتبنّي السياسات التي يصنعونها؟ كيف يمكن استغلال هذا الانهيار الماثل أمام الجميع، وإظهاره برهانًا جليًّا ومؤثّرًا عن مدى الخراب الذي أحدثته السياسات التي استثمرت في عوامل التفرقة، وجعلتها وسيلة للتجييش والغرائزية والانتقام، وأدارت حروب مصالحها بالاستناد إليها، وغذّت الحروب البينية في مجتمعاتها؟ أسئلة كثيرة باتت ضرورية، يمليها الواقع من جهة، وحقيقة أن الحل السياسي في سورية لم يعد إمكانيةً محليةً منذ سنوات، بل صار القرار مرتهنًا للقوى المهيمنة على الأرض وماسكة القرارات في جهات سورية الأربع، وبإدارتها صراعاتها، إن كان ضمن الداخل السوري أو في مناطق بعيدة. لم يعد التكهن بأجل، قريب أو بعيد، تهدأ به هذه الصراعات، وتظهر نتائج المفاوضات وانعكاسها على شكل السلطة المستقبلية في سورية ممكنًا، بل علينا تحضير أنفسنا لاحتمالات عديدة، أكثرها إشراقًا أن يعود الوضع إلى ما قبل انطلاق الحراك، ومعه تذهب كل تضحيات الشعب رخيصة، على الرغم من الفواتير الباهظة التي دفعها، ويا للخيبة.
في مناطق سيطرة النظام أو الفصائل المعارضة، الجريمة في ازدياد مضطّرد، والفساد، والتفكك الأسري، والبطالة
ولكن يجب ألّا تغيب عن البال احتمالات ممكنة الوقوع، إذ أمامنا البراهين على هذه الإمكانية والاحتمالية، العراق نموذجًا، والنموذج الأكثر مثارًا للترقب والمقاربة والقلق اليوم: أفغانستان، بعد احتلال أميركي عشرين عامًا، والمليارات التي أهدرت في الاستثمار الحربي من دون النهوض بالاقتصاد والمجتمع. وبالتالي، ازداد استنقاع الشعب، وجنح قسمٌ منه إلى القبول بحكم حركة طالبان، على الأقل يرتاحون من القتال والحرب والحياة على فوّهة بركان. ولكن، ما هي النتيجة المتوقعة، مهما أشهرت "طالبان" من شعارات وبرامج وخطط عن المرحلة المقبلة، وكيفية إدارة البلاد، وإعطائها المرأة حقوقها والأقليات، ومشاركة كل شرائح الشعب في الحكم؟ لا تمنح المؤشّرات السابقة والحالية أي وميض أمل بأن هذا التنظيم الجهادي العنفي الكاره للمرأة يمكن أن يكون، بعقيدته الحالية وممارساته في إدارة الحياة والمجتمع، حلًّا للمشكلات، وبديلًا عن النظام الفاسد الذي كان يدير البلاد، وأملًا في نهوضها مستقبلًا.
تتسارع علامات الانهيار المجتمعي في سورية اليوم. في الداخل، حيث مناطق سيطرة النظام أو الفصائل المعارضة، الجريمة في ازدياد مضطّرد، والفساد، والتفكك الأسري، والبطالة، وضياع جيل الشباب وغرقهم في مستنقع المخدّرات واللهو الرخيص، وجرائم الشرف، والاستغلال الجنسي للنساء والأطفال أيضًا، عدم الاكتراث بالقضايا العامة أو المشكلات المجتمعية، التطاول والاعتداء القصدي على الملكية العامة، التحايل على القوانين وانتهاكها أكثر من السابق، والتحايل على الحقوق الشخصية من الناس تجاه بعضهم بعضًا، الانكفاء وموت العلاقات الاجتماعية، وهذا أمر يتطلّب العمل على إعادة العافية للمجتمعات، تحضيرًا لمستقبلٍ قد تتوقف فيه الحروب، ويهدأ ضجيج السلاح، لتظهر الحقائق على الأرض وحجم الكوارث، ومسافة الابتعاد عن الأهداف التي انطلق لأجلها الشعب في حراكه الغاضب.
إعادة بناء مجتمع محلّي بحدّ ذاته صارت هدفًا ضروريًّا، وحاجةً أساسيّةً من أجل تقريب مفهوم الدولة الحديثة والمجتمع المدني ومعنى الوطن والمواطنة والانتماء والروح الوطنية مستقبلًا، هدف يمكن الاشتغال عليه باستثمار ما تقدّمه الحياة الرقمية من أدوات وإمكانية التواصل والتلاقي والعمل عن بعد. بإمكان النخب السورية في كل مجالاتها التلاقي وتشكيل مجتمع مدني موازٍ يتم فيه العمل المشترك بين الداخل والخارج، وهذا متاحٌ لو توفرت النيّة والقناعة والأهداف والخطط، تأسيسًا لوعي مستقبلي يمكن البناء عليه، من أجل مجتمع مدني واقعي، وليس افتراضيًّا، فهل هذا الهدف ثانوي، ويمكن تأجيله في وقتٍ لا يحمل الأفق وعدًا بحلّ سياسي قريب؟ أم إن استثمار الوقت صار مطلبًا من أجل وقف الانهيار المجتمعي والوعي الجمعي، تحضيرًا لمستقبلٍ نرجو فيه ألّا يداهمنا بحجم المشكلات المتراكمة والمتجذّرة التي ستكون عثراتٍ، بل سدودًا في طريق البناء؟