مخزنة المحاماة التونسية وتداعياتها السياسية
المخزن اختصاراً مفهوم تاريخي مستخدم في الحقل السياسي المغربي، يفيد بهيمنة الدولة على المجال العمومي، وتطويعه لخدمة السلطان أو الملك وتكريس الولاء له، وإخضاع الفضاءات والمجموعات السائبة لسلطته. ييسّر هذا المفهوم فهم وتفسير واقع المحاماة التونسية بعد 25 يوليو/ تموز 2021، ويساعد في الوقوف على الانزياح في مواقف الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين من منطلق الدفاع عن الحريات العامة والفردية ولعب دور قيادي في حفظ الحقوق المدنية والسياسية، على امتداد أغلب ردهات حكمي الرئيسين الحبيب بورقيبة وزين العابدين بن علي، وطوال عشرية الثورة التونسية (2011-2021)، من دون تمييز أيديولوجي أو سياسي بين المعتقلين والمسجونين على خلفية مواقف عبّروا عنها أو آراء أبدوها أو معارضة للسلطة صدعوا بها، إلى تجاهل قضايا الحريات، والتشريعات الجائرة التي تُعتمد سنداً لإثارتها، وخصوصا قانون مكافحة الإرهاب ومنع غسل الأموال لسنة 2015 والمرسوم عدد 54 لسنة 2022، وما انتهت إليه تلك القضايا من اعتقالات ومحاكمات، طاولت صحافيين ومدوّنين ونقابيين وأصحاب رأي، حتى بلغ أمر الهيئة أن تخلّت عن منظوريها من المحامين المسجونين بعدما أعلنوا رفضهم ومعارضتهم ما قام به الرئيس التونسي قيس سعيّد من استيلاء على السلطة والاستفراد بها لنفسه وخاصته، معتبرين ذلك الإجراء انقلابا على الشرعية.
فلا يمكن لهيئة المحامين التونسيين، التي اعتلى كرسي عمادتها المحامي حاتم المزيو سنة 2022 في دورة تمتد إلى سنة 2025، أن تنكر أن عدة محامين مسجونين على ذمّة التحقيق في قضايا مختلفة، ذات خلفيات سياسية بيّنة، تأتي في سياق رفض سلطة "25 جويلية" واختياراتها، هم قادة أحزاب يشتغلون بالحقل السياسي التونسي علناً، وفي إطار الشرعية القانونية للدولة ونواميسها المنظّمة للحياة العامة، على غرار الأمين العام السابق لحزب التيار الديمقراطي ووزير أملاك الدولة والبرلماني الأسبق غازي الشواشي، ورئيسة الحزب الدستوري الحر والنائبة السابقة عبير موسي، ونائب رئيس حركة النهضة ووزير العدل والنائب ورئيس كتلة حركة النهضة بالبرلمان التونسي في أكثر من دورة نور الدين البحيري، واليساري والوزير مدير الديوان الرئاسي زمن ولاية الرئيس الباجي قائد السبسي رضا بلحاج، كما لا يمكن لهذه الهيئة أن تتجاهل الملاحقة القضائية لعدّة محامين وهم في حالة سراح، على غرار المحامي لزهر العكرمي، ومن ذلك أخيراً التحقيق مع أحد كبار أساتذة القانون المحامي البشير المنوبي الفرشيشي، من دون الاحتفاظ به في تهمةٍ اعتبرها لسان الدفاع واهية ومفتعلة للجمه عن الكلام، هذا من دون نسيان المحاكمات العسكرية التي خضع لها محامون آخرون، من أبرزهم رئيس حزب ائتلاف الكرامة سيف الدين مخلوف، والنائب السابق وعميد المحامين الأسبق عبد الرزاق الكيلاني.
الولاء لسلطة 25 يوليو
بدأت مسيرة مخزنة المحاماة التونسية وإعلان ولائها لـ"سلطة 25 يوليو" الحاكمة بعدما قرّر الرئيس سعيّد تجميد البرلمان ثم حلّه، وتعليق العمل بدستور 27 جانفي (يناير/ كانون الثاني) 2014، قبل استبداله بدستور 2022، فقد انخرط عميد الهيئة الوطنية للمحامين التونسيين آنذاك إبراهيم بودربالة، الذي فاز بالمنصب في الدورة 2019 - 2022، بفضل أصوات الإسلاميين (حركة النهضة وائتلاف الكرامة والتيار السلفي) وبعض الدستوريين، ما أطاح منافسه بوبكر بالثابت ممثل التيار القومي العربي وجمع من اليساريين، انخرط في الولاء للرئيس ودعم مشروع حكمه منذ البداية، ثم تحوّل إلى أحد كبار المنافحين عن الجمهورية الجديدة. وقد جازاه الرئيس سعيّد بأن عيّنه رئيساً اللجنة الاقتصادية، من لجان "الهيئة الوطنية الاستشارية من أجل جمهورية جديدة" التي جرى إحداثُها وفقا للمرسوم عدد 30 الصادر في 19 مايو/ أيار 2022 برئاسة عميد كلية الحقوق السابق الصادق بلعيد، فيما سُمي وقتئذ الحوار الوطني، ومكّنه بعد ذلك من دخول برلمان تلك الجمهورية وتولّي رئاسته، جاعلا من هيئة المحاماة التونسية مطيّة لتحقيق طموح سياسي قديم، كان صعب المنال في زمن الانتخابات الديمقراطية.
بدأت مسيرة مخزنة المحاماة التونسية وإعلان ولائها لـ"سلطة 25 يوليو" الحاكمة بعدما قرّر الرئيس سعيّد تجميد البرلمان ثم حلّه، وتعليق العمل بالدستور
لم يستطع عميد المحامين الحالي حاتم المزيو التميز والخروج من عباءة سلفه بودربالة، فقد جرى تصنيفه عشية فوزه بالمنصب في سبتمبر/ أيلول 2022 بأنه مرشّح السلطة المدعوم من الرئيس، وهو الذي أسرع في استقباله بقصر قرطاج لتهنئته، إذ لم يُبد المزيو اختلافا أو رفضا أو معارضة لمقاربة الحكم التي احتواها دستور 2022، وهي مقاربة تقوم على عدم وجود أحزاب سياسية تتولى السلطة عن طريق التداول السلمي ومعارضة خياراتها، حيث انتفى مفهوم المعارضة من الدستور التونسي، وأُلغي منه مبدأ الفصل بين السلطات وتحويلها إلى مجرّد وظائف، مقابل تركيز السلطة بصفةٍ مطلقةٍ في يد الرئيس وحده، وعدم خضوعه إلى أيٍّ من أنواع الرقابة أو المحاسبة أو التتبع والمساءلة في أثناء القيام بمهامه، وبعد مغادرة كرسي الرئاسة، بالإضافة إلى وجود برلمان صوري منزوع الصلاحيات، مرجعه فكرة البناء القاعدي الطوباوية، جاء على أثر انتخابات أقلية حطّمت الرقم القياسي العالمي في العزوف عن الانتخابات ومقاطعتها.
اتهم المحامي والوزير الأسبق رضا بلحاج في رسالته المنشورة في صفحته على "فيسبوك" يوم 3 يناير/ كانون الثاني الحالي، عميد المحامين ومجلس العمادة بالصمت المريب تجاه التعسّف والتنكيل الذي تمارسه السلطة الحاكمة في تونس على المحامين المعتقلين. جاء في تلك الرسالة: "... أتوجه بالأساس لعموم الزملاء والزميلات لأسجّل بكلّ مرارة الصمت المريب للسيد العميد عمّا يلحق بي وبزملائي في المهنة وبإطارات دولة وقيادات سياسية من اتجاهات مختلفة من تنكيل وتعسف. عشرة أشهر كاملة ونحن رهن الاعتقال بتهم واهية لا أدلّة وقرائن فيها. عشرة أشهر شاهدنا فيها كلّ أشكال الدوس على الحقوق الأساسية التي يضمنها التشريع التونسي والتشريع الدولي للإنسان وانتهاك صارخ للإجراءات، مداهمة محلات السكنى ليلا وتفتيشها أكثر من مرّة، والاحتجاز، إصدار بطاقات إيداع دون سماعات، اعتقال محامين أثناء أداءهم لواجبهم إلى جانب اختلاق تهم لا وجود لها كتدوينات لا أثر لها على مواقع التواصل الاجتماعي واعتمادها كحجة للإيداع بالسجن، والأدهى والأمر أنّه طوال هذه المدة وزملاء لك سابقون لك في هذه المهنة المقدسة كافحوا لإصدار قانون المحاماة وفرض حصانة المهنة ملقون في السجن ظلما ولم نسمع لك صوتا ولم نلمس منك موقفا". وذكّر بلحاج عميد المحامين بما لعبته المحاماة من أدوار تاريخية في نصرة الحريات والانتصار لحقوقٍ لا تنفصل فيها عُرى القانوني عن السياسي.
كانت المحاماة التونسية منبرا للحرية ومؤسّسة تتعايش فيها كل الحساسيات القانونية والاتجاهات السياسية، وتنتصر فيها الديمقراطية والتداول السلمي على قيادتها من دون إقصاء أو رفض وتمييز
وقد جاءت ردود عميد المحامين التونسيين على تلك الرسالة مثقلة بخشية السلطة الحاكمة مرتبكة، سمتها الغموض والهروب إلى الأمام، بدلا من معالجة أصل المشكل المتمثل في إعادة إنتاج دولة الاستبداد بخطى حثيثة وبروز سماتها من جديد، وخصوصاً ضرب الحريات، من خلال ترهيب المحامين وإسكاتهم بصفتهم حماة الحرية وصوتها الذي لا يخفُت فلا يهاب السلطة ولا يخشى غطرستها، ذلك أن المحاماة التونسية كانت على مرّ العصور منبرا للحرية ومؤسّسة تتعايش فيها كل الحساسيات القانونية والاتجاهات السياسية، وتنتصر فيها الديمقراطية والتداول السلمي على قيادتها من دون إقصاء أو رفض وتمييز.
انحراف عن أصل القضية
في تصريح إذاعي يوم 4 يناير/ كانون الثاني الحالي، شكّك المزيو في صحّة رسالة بلحاج، متسائلا كيف يمكن نشر هذه الرسالة وصاحبها في السجن، لكنه قبل بعد ذلك بفرضية صحّتها قائلا "نحترم علوية القانون، ولكن القضية التي أوقف على ذمّتها بلحاج وبقية المحامين لا علاقة لها بالمهنة"، معتبرا أن القضية تشوبها إخلالات إجرائية فقط. واكتفى البيان الذي أصدرته الهيئة الوطنية للمحامين بتونس بعنوان "نحو إطلاق الحريات لا للمساس بحق الدفاع نعم لدولة القانون"، المؤرّخ في العاشر من يناير/ كانون الثاني الجاري، وأمضاه عميدُها، بالقول في النقطة الرابعة "يعبّر (مجلس الهيئة) عن قلقه من طريقة التعامل مع الملفّات التي تتعلّق بالمحامين الناشطين السياسيين وصحافيين ونقابيين شابتها إخلالات إجرائية جوهرية، واتسمت بالتسرّع في إصدار بطاقات الإيداع بالسجن من دون الالتزام بزمن معقول للبتّ في ملفاتهم التي طال نشرها من دون موجب قانوني، مما يخلّ بحقّهم في محاكمة عادلة وبقرينة البراءة وبأن المبدأ هو حرية الفرد".
يتبيّن من تلك الأقوال والشواهد والبيانات أن أعضاء هيئة المحامين التونسيين وعميدها قد انحرفوا عن المبدأ وأصل القضية، حينما قبلوا بمحاكمة زملائهم وغير زملائهم من الناشطين في الحقل العام في قضايا ذات طبيعة سياسية واضحة، وحينما أقرّوا بما تدعيه السلطة أن هؤلاء السياسيين على اختلاف مشاربهم وانتماءاتهم الحزبية والمدنية ومنهم من تولّى أعلى المناصب في الدولة هم أصحاب شبهات إرهابية ما استوجب إحالتهم على العدالة بمقتضى قانون الإرهاب وغسل الأموال.
كان على ممثلي المحاماة التونسية استخدام كل الوسائل القانونية والسياسية والاحتجاجية بالطرق المدنية والسلمية المتاحة لإثبات الطبيعة السياسية لقضايا زملائهم المعتقلين، ولهم في اعتصام سنة 2006 تجربة ونبراس، ذلك أن ربيع المحاماة التونسية في كل الأزمنة منذ تأسيسها قبل قرن يكمن في الدفاع عن القضايا الوطنية والسياسية محليا ودوليا، وعدم الاقتصار على المطلبية القطاعية، حتى صحّ القول إن تاريخ المحاماة في تونس هو تاريخ المرافعات في المحاكمات السياسية، وأن خيرة معاركها كانت في خوض المعارك السياسية والدفاع عن قضاياها.
محاكمات المحامين والاعتقالات التي طاولتهم والسجون التي أودعوا بها على خلفية أنشطتهم السياسية كانت دائما ملازمة للنظام الرئاسي
والواقع أن محاكمات المحامين والاعتقالات التي طاولتهم والسجون التي أودعوا بها على خلفية أنشطتهم السياسية كانت دائما ملازمة للنظام الرئاسي (1957- 2011 و2021-)، بينما تقلّص حجمها أو غابت نهائيا عن المحاكم في ظل النظام البرلماني الذي عرفته تونس عشر سنوات (2011-2021)، وما صاحبه من حرّيات شملت الرأي والتعبير والصحافة وإنشاء الأحزاب والنقابات والجمعيات. ويُذكر أن النظام البورقيبي حاكم كلا من الزعيم والمحامي صالح بن يوسف سنة 1958، وأصدر في حقّه حكما بالإعدام، وعميد المحامين الأسبق الشاذلي الخلادي والمحاميين الصادق بوهلال وعمّار الدخلاوي سنة 1961 لدوافع سياسية، فصّل القول فيها المؤرّخ عادل بن يوسف في دراسته "علاقة بورقيبة بالمحامين وبهيكل المحاماة في مطلع الاستقلال"، وعبد الفتاح مورو سنة 1981 على خلفية انتمائه إلى حركة الاتجاه الإسلامي.
دور للمحاماة في إسقاط نظام بن علي
أما في فترة حكم زين العابدين بن علي فقد طاولت محاكمات المحامين بسبب انتماءاتهم الأيديولوجية ونشاطاتهم السياسية والحقوقية والدفاع عن الحرّيات والحقّ في تأسيس الأحزاب والمشاركة السياسية محامين عديدين من مختلف التيارات السياسية، على غرار العميد الأسبق البشير الصيد وعبد الرحمان الهاني ومحمد عبّو. وكانت السلطات الأمنية تمارس تجاه بعضهم المضايقات والعنف، وهم كثُر، من بينهم راضية النصراوي وعبد الرؤوف العيادي، وفق ما جاء في كتاب عبد الرزاق الكيلاني "المحامون في تونس من مقاومة الاستبداد إلى ثورة الحرية والكرامة". كان للمحاماة التونسية دور حاسم في الحركات والمظاهرات الاحتجاجية التي أدّت إلى إسقاط نظام بن علي وإنجاح الثورة التونسية يوم 14 يناير/ كانون الثاني 2011، كما كانت للمحامين أدوارٌ فاعلة عشر سنوات، برزت، في البداية، في تشكيلهم صحبة الاتحاد العام التونسي للشُّغل وثلة من الأحزاب والتنظيمات السياسية أول مجلس يشرف على الثورة التونسية سنة 2011 وانخراطهم في هيئة تحقيق أهداف الثورة بقيادة عيّاض بن عاشور، ثم ترشّحهم بصفة لافتة في مختلف الانتخابات التأسيسية والتشريعية والرئاسية والمحلية، فكان حضورُهم مكثفا ومؤثرا في عمل الهياكل التشريعية وسن القوانين والتشريعات التي تنظم الدولة والمجتمع وكذلك في الحكومات المتعاقبة، فمثّلوا فئة وازنة في السلطتين التشريعية والتنفيذية، كما كانت الهيئة الوطنية للمحامين لاعباً رئيسياً في الحوار الوطني الذي ساعد على إنقاذ تونس سنة 2013 من حمّام دم بسبب الاغتيالات التي طاولت شكري بلعيد ومحمّد البراهمي، هذا زيادة على تمكين المحامين التونسيين سنة 2011 من مرسوم منظّم لمهنة المحاماة يستجيب لمطالب هياكلهم المهنية، وتمثيلهم في المجلس الأعلى القضاء قبل حلّه، في حين حرمهم الرئيس سعيّد من تلك التمثيلية في المجلس المؤقت للقضاء وفي مجالس الأقضية العدلية والإدارية والمالية.
يبدو أن المحاماة التونسية تنكرّت بعد 25 يوليو 2021 لكل إرثها النيّر في مقاومة الاستبداد
ويبدو أن المحاماة التونسية تنكرّت بعد 25 يوليو/ تموز 2021 لكل إرثها النيّر في مقاومة الاستبداد وإنجاح ثورة "14 جانفي"، وللدور البارز الذي لعبته في المشاركة السياسية وتولي الحكم بصفة مباشرة أو غير مباشرة، عشر سنوات، فقد قبلت بالرواية الرسمية، التي وصمت عشر سنوات من الثورة التونسية بالعشرية السوداء، ولم تعترف بغير 17 ديسمبر/ كانون الأول: عيدا للثورة، وكأن نظام بن علي انهار في ذلك اليوم، فتخلّت المحاماة عن إحياء ذكرى "14 جانفي"، ولم تكلّف نفسها حتى إصدار بيان بمناسبة مرور 13 سنة، مستجيبةً لسلطة حاكمةٍ لا تخجل من مخزنة الحياة العامة برمتها، بما في ذلك الأحداث والوقائع الكبرى والرمزيات.
تهميش قطاع المحاماة
تحتاج المحاماة التونسية إلى تذكير مجلس هيئتها وعميدها بأن الغربة التي تعيشها في ظل سلطة "25 جويلية" لا تتعلّق البتة بعدم احترام تلك السلطة وجهازها القضائي الإجراءات في محاكمة أصحاب الرأي الحر والعاملين في المجال السياسي المعارض من المحامين وغير المحامين، وإنما يتعلّق الأمر بنكران الطبيعة السياسية للمحاكمات بالخلفية والطريقة نفسها التي كانت تقدّم بها قوى المعارضة وقياداتها في زمن بن علي إلى محاكم الحقّ العام بعد حلّ محكمة أمن الدولة سنة 1987، نافية عنها طابع الرأي والسياسة. كما تحتاج إلى الوقوف على الحقيقة التي باتت راسخة، وهي أن سلطة الرئيس سعيّد لا تعترف بالأجسام الوسيطة الحزبية والنقابية والمدنية. ولهذا السبب، يعيش قطاع المحاماة التونسية حالة من التهميش والإبعاد عن الفعل العام، كما الأمر بالنسبة للأحزاب السياسية والحركة النقابية مجسّدة في الاتحاد العام التونسي للشغل، ولم يشفع لهذا القطاع تأييد هيئته مسار "25 جويلية"، أو الأدوار التاريخية التي لعبها في صفوف الحركة الوطنية وقياداتها زمن الاستعمار الفرنسي وفي تأسيس الدولة الوطنية وتشكيل حكومة الاستقلال التي كان رئيسها وكثيرون من وزرائها من قطاع المحاماة.
حرية المحاماة وتحرّرها من كل أشكال الهيمنة والإخضاع يساعد على تحرّر المجتمعين المدني والسياسي للقيام بوظيفتيهما من دون ضغوط أو تتبعات أمنية وقضائية
إن حرية المحاماة وتحرّرها من كل أشكال الهيمنة والإخضاع يساعد على تحرّر المجتمعين المدني والسياسي للقيام بوظيفتيهما من دون ضغوط أو تتبعات أمنية وقضائية، ويعيد إلى القضاء الثقة في قراراته التي يتّخذها بناء على ما يمليه القانون والضمير، وليس طبقا للتعليمات والأوامر القادمة من السلطة الحاكمة.
على المحاماة التونسية وهياكلها المنظّمة أن تمتلك الوعي بأهمية دورها التاريخي في التصدي لسلطوية الدولة والنزعات الاستبدادية للحاكمين، بقطع النظر عمّن يحكم، فليس من مهامها تمهيد الطريق أمام السلطة الحاكمة لمخزنة الفضاء العام وجعله مساحةً حكوميةً صرفة بلون واحد لا اختلاف فيها ولا تنوع ولا تداول على السلطة، فتلك المخزنة لن تستثني قطاع المحاماة، وإنما تكمن وظيفتها بوصفها معبداً للحرية والاستقلالية في الدفاع عن الحقوق والحريات العامة وديمقراطية الفضاء العام، ليكون قادراً على الاتساع للجميع من دون إقصاء، وأن تجعل من المحاكم والمنابر القضائية مجالاً لإصلاح أخطاء وتجاوزات أهل الحكم وردع جرائمهم واعتداءاتهم، بدلا من أن تكون المحاكم وسيلة الحكام في قمع المحكومين ومنعهم من حقوقهم المدنية والسياسية بما في ذلك حقّهم في الوصول إلى السلطة.