محنة المبدع في خريف عمره

17 اغسطس 2022

(غسان غائب)

+ الخط -

لا شيء أكثر قسوةً على المبدع، شاعراً كان أو روائياً، مفكّراً أو فناناً، من أن يُمتحن في صحته، في أمنه، في حريته، وفي شروط إنسانيته، الأكثر قسوة وإيلاماً أن يتعرّض لامتحان كهذا، وهو في خريف عمره، وبعد أن يكون قد أعطى الكثير مما يُحسب له في ميزان حسناته.
واحدة من الخطايا التي ترتكبها الأنظمة الجائرة خطيئتها في محاربة الإبداع والمبدعين بكلّ ألوانهم وأصنافهم، أو على الأقل في تجاهلهم وإنكار حقوقهم، أقلها الحقوق الإنسانية التي أعطتها الطبيعة لهم، وهي في مسلكها هذا تعبّر عن خشيتها منهم، لأنهم يفضحون سوءاتها، ويسعون إلى تغيير العالم المحيط بهم، ويطمحون لتوفير الشروط الإنسانية لمجتمعاتهم عبر القصيدة والرواية واللوحة الفنية والموسيقى. ولذلك، يصبح همّ تلك الأنظمة هو إما العمل على إغرائهم، وبالتالي إلحاقهم بعربة السلطة أو ممارسة الضغوط عليهم بهذه الطريقة أو تلك، وصولاً إلى إقصائهم عن المشهد العام وإجبارهم على العزلة والوحدة، أو دفعهم إلى الهجرة إلى المنافي.
وفي الوجه الآخر للعملة، تسبغ تلك الأنظمة رعايتها على الأميين ودعاة التجهيل والخرافة، وتمنحهم الحظوة والحماية، وتروّج ما يزعمونها من أساطير، وما يبثّونه من أوهام وخرافات يختلقونها أو يعيدون إنتاجها وتسويقها لإدامة ما يرونه ضامنا لحياتهم وللنظام الاجتماعي الشرير الذي لا يحميهم فقط، إنما يكافئهم مالاً، وموقعاً، وجوائز، وشهادات.

تكاد تقبض على أرواح مبدعي العراق ثلة من الطارئين على السياسة والحكم "رجال جوف مملوءة رؤوسهم بالقشّ"

ليس ثمة مثال في عالمنا العربي على ما نقوله أكثر وضوحاً من حال العراق، حيث تكاد تقبض على أرواح مبدعيه ثلة من الطارئين على السياسة والحكم "رجال جوف مملوءة رؤوسهم بالقشّ" كلّ همّهم الحفاظ على ما غنموه، وفي ظلهم يختبر المبدع حياته، حتى لو كانت على حد الموت، والشواهد كثيرة، وأمامنا "عيّنات" تفضح هذا التردّي الفاجع في حال الثقافة في بلد له ستة آلاف سنة في البناء الاجتماعي والإسهامات الحضارية والإبداع في شتى مجالات الفنون والعلوم والآداب.
أمامنا الشاعر العراقي، سامي مهدي، صاحب "رماد الفجيعة" و"أسفار الملك العاشق" و"الأسئلة" و"الزوال" و"مراثي الألف السابع" و"لا قمر بعد هذا المساء" وعشرين مجموعة شعرية أخرى، منها قصائد مترجمة لجاك بريفير وهنري ميشو، وخمسة عشر كتاباً في النقد والأدب ومسائل الثقافة، والذي أنفق ستين عاماً من عمره في خدمة الدولة، آخرها عمله رئيساً لتحرير أكثر من مجلة ثقافية وصحيفة، ومديراً للإذاعة والتلفزيون ومديراً للشؤون الثقافية. وتراه قعيد بيته منذ عشرين عاماً متقاعداً بلا راتب، بعدما أوقف المعنيون صرف راتبه الذي يستحقه قانوناً بعد تلك الخدمة الطويلة، بدعوى أنّه من أنصار العهد السابق. وفي آخر أخباره رقوده على سرير المرض، وحاجته إلى الرعاية الطبية بما يدعم حياته في خريف عمره.
وأمامنا عبد الرحمن مجيد الربيعي الذي قدّم لنا "السيف والسفينة" و"وجوه من رحلة التعب" و"الأنهار" و"القمر والأسوار" وعشرين رواية ومجموعة قصصية أخرى، ومجموعات شعرية ونثرية ودراسات نقدية، زاول التدريس والعمل الصحافي وعمل مديراً للمركز الثقافي العراقي في كلّ من بيروت وتونس، وخرج من رحلته الوظيفية تلك براتب تقاعدي ضئيل لا يكاد يسد احتياجاته الشخصية، بضع مئات من الدولارات. وقد أخذته منا، هو الآخر، غائلة المرض، ليعيش معتزلاً في منزله بمدينته الأولى، الناصرية، من دون أن يلتفت إليه أحد.

السلاح المليشياوي الشرّير المنتشر في كلّ البلاد قادر على النّيل من المنخرطين في دروب الإبداع وإسكات أصواتهم

وأمامنا أيضاً عشرات، إن لم نقل مئات من المنخرطين في دروب الإبداع يتعرّضون اليوم للمحنة نفسها في ظل النظام (الديمقراطي!) الذي أقامه الأميركيون، وهيمن عليه الإيرانيون، وهم قعيدو بيوتهم لا يبارحونها، تلاحقهم الكوابيس والمخاوف، وآخرون اختاروا المنافي بعدما شعروا بأنّهم باتوا غير آمنين في بلدهم، وأنّ السلاح المليشياوي الشرّير المنتشر في كلّ البلاد قادر على النّيل منهم وإسكات أصواتهم إن تجرّأوا وفتحوا أفواههم بكلمة نقد لهذا الزعيم المليشياوي أو ذاك، أو قدّموا عملاً يحاكم الواقع الفاسد ويبشّر بتغييره، وقد رحل بعضهم وسط مكابدتهم في منافيهم من دون أن يتسنّى لهم أن يلقوا النظرة الأخيرة على بلادهم، ورقدوا في مقابر الغرباء من دون أن ترتفع أصوات الأجهزة المعنية بالثقافة، ولا حتى المنظمات التي تزعم رعايتها الإبداع وحمايتها المبدعين بالدعوة إلى إنصافهم ورفع الحيف عنهم.
هكذا، في العراق تدور في العمق الحرب على الإبداع والمبدعين، يرافقها سعي القوى المسيطرة جاهدة إلى تكريس الجهل والخرافة، وقد لا تبدو هذه الحرب الشيطانية مرئيةً في عيون بعض "المثقفين!" الذين باعوا أقلامهم، وركعوا على ركبهم يغنّون لجلاديهم "الدنيا ربيع والجو بديع" وكفى الله المؤمنين القتال.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"