محنة القضاء في تونس

14 فبراير 2022

قضاة ومحامون في تونس يحتجون ضد قرار سعيّد حل المجلس الأعلى للقضاء (10/2/2022/الأناضول)

+ الخط -

تتوالى الخطوات حثيثةً من أجل تقويض السلطة القضائية وإلحاقها بسلطات الرئيس التنفيذية. لم يأخذ الناس مأخذ الجد ما لوّح به الرئيس عدة مرات، غير أنّه انتقل إلى السرعة القصوى، وبجرّة قلم، كما يحلو له أن يقول هو؛ حلّ المجلس الأعلى للقضاء، وأصدر المرسوم الرئاسي المتعلق بذلك، في "الرائد الرسمي للجمهورية التونسية" وبعد ساعات من انعقاد المجلس الوزاري المعد للغرض. ما يحسب للرئيس أنّه "إذا وعد وفى وإذا توعّد أنجز". لم يلمّح إلى إجراء، إلّا وطبقه آجلاً أم عاجلاً.
كان الناس لا ينتبهون إلى أحاجيه وألغازه، لكن ها هم يتأكدون أنّه ما إن يقول خطاباته، ومهما تقعر في اللفظ وسلك في اللغة مسالك مهجورة، يتبعها بإنجازات على الأرض. يتبع استراتيجية واضحة المعالم: تقديم معلومات عامة عن ملفات أو أشخاص. يهجم الحشد الشعبي الإلكتروني سحلاً ونهشاً... تبدأ بعد خطاب الرئيس في شيطنة الجهة المستهدفة أو المؤسسة، ينعقد اجتماع مجلس وزاري، وتصدر تباعاً المراسيم التي لا يمكن الطعن فيها قانونياً، بحسب المرسوم الرئاسي عدد 117، المنظم للسلطات المؤقتة خلال هذه الفترة الاستثنائية.

لا يخاف الناس فقط مؤسسات الدولة، وتحديداً الأمن والقضاء، بل يخشون السحل الإلكتروني لحشود افتراضية

حالة الانقسام العمودي التي تشطر المجتمع التونسي إلى مخيمين كبيرين، بقطع النظر عن النسب وحجم هذا المخيم وحجم ذاك، تشكل مناخاً مواتياً من أجل أن يتقدّم الرئيس في طريق مفتوح، جارفاً كلّ شيء يعترضه تحت تصفيق الجمهور أحياناً، وصمت الآخرين أحياناً أخرى. ثمّة حالة خوف حقيقية بدأت تخيم على البلاد. لا يخاف الناس فقط مؤسسات الدولة، وتحديداً الأمن والقضاء، بل يخشون السحل الإلكتروني لحشود افتراضية مستعدّة أن تفترس البشر وتلقي بهم جثثاً هامدة في فضاء افتراضي غدا مرعباً. يصرّح الرئيس أنّه يطلع على ما يكتبه "الخونة والمأجورون ومن باعوا ضمائرهم". ثم أصوات حرّة غابت أو اكتفت بالاطلاع على ما يكتب. الخوف أيضاً ناجم عن خشيةٍ حقيقيةٍ من تتبعات عدلية على ملفات معدّة للغرض، كما أنّه أيضاً نابع من توقع صدور أفعال عديدة عن طيفٍ واسعٍ من عتاة اليسار الذين التقوا موضوعياً مع أنصار قيس... ثمّة ما يشبه السلوك المليشياوي الذي قد يطلّ على البلاد بين حين وآخر، بدايات ثقافة الثأر والاستفزاز حتى الاستضعاف المهين تلوح في أفق ممارسات بعضهم قريباً.
مثل قطاعات ومؤسسات عديدة في تونس، يحتاج القضاء إلى إصلاحات عميقة. لكن، هل يتم هذا كله من خلال شيطنة القضاة وهرسلتهم؟ الصورة التي رسمت أخيراً عنهم في منتهى السلبية، وهي غير دقيقة، بل فيها كثير من التحامل وتصفية الحساب وإجبارهم على أن يكونوا أداة طيعة، حتى يكونوا اليد التي يبطش بها ضد كلّ من يقف في وجه هذا المسار الذي دخلت فيه البلاد منذ بضعة أشهر.

الرئيس يرفض تماماً أن يكون القضاء سلطة مستقلة، بل يريده وظيفة في يد الدولة

يعلم التونسيون أنّ المجلس الأعلى للقضاء، الهيئة التي أوكل لها الدستور تسيير المرفق القضائي، من حيث نقل القاضي وتدرّجه المهني ومختلف أشكال العقوبات التأديبية التي تسلط على كبار القضاة متى ارتكبوا أخطاء مهنية جسيمة، هي هيئة لضمانة استقلال القضاء. قد يكون ذلك غير كاف أو غير عملي. ربما تكون هذه  المبرّرات أسباباً حقيقية وراء مراجعة هذه المؤسسة، من أجل تعزيز مزيد من الاستقلالية والفاعلية، حسب المعايير الدولية التي تنص عليها المواثيق والاتفاقيات. مع ذلك، يستفرد الرئيس في حالة استثنائية تعلق فيها الدستور، وحاز كلّ السلطات بتقرير مصير هذه المؤسسة بعد حلّها. كيف يمكن صياغة أي مشروع جديد، يعد به حالياً، من دون إشراك القضاة، على أن يكون ذلك وفق صيغ تمثل القضاة؟ الجمعية التونسية للقضاة، أعرق الهيئات التي تمثل القضاة وأكبرها، تعارض بشدّة حل الرئيس المجلس الأعلى للقضاء، وتخوض، منذ أسبوع أو أكثر، أشكالاً نضالية عديدة، حتى تتوقف الحملة المغرضة على القضاة أولاً وعلى المجلس المنحلّ ثانياً. 
لا شيء ينبئ في الأفق أنّ هناك حلاً في قادم الأيام. وقد استبدل الرئيس المجلس الأعلى للقضاء بآخر مؤقت، وفق المقاس، فالرئيس يرفض تماماً أن يكون القضاء سلطة مستقلة، بل يريده وظيفة في يد الدولة، كما يقول مراراً وتكراراً. 
تبدو حركة معارضة الانقلاب دون المأمول في بلدٍ توهمت نخبه أنّ الديمقراطية راسخة القدمين فيها. لكن، يبدو أنّ الطريق ما زال طويلاً، خصوصاً أنّ ثمة انتكاسة وعودة إلى الوراء، حيث مربع التسلط الشعبوي. ستكون الكلفة التي تدفعها تونس باهظة، لكن يبدو أنّ أشياء قد نخسرها عقوداً، بل قروناً، ولا يمكن استعادتها إلّا بعسر: قيم الديمقراطية والثقة بها والإيمان أنّها الحلّ لمعضلات البلاد التونسية. تراجعت تونس حسب تقرير مؤشّرات الديمقراطية الذي نشر قبل أيام، ولا أحد يشغله مثل هذا الخبر.

7962F3C9-47B8-46B1-8426-3C863C4118CC
المهدي مبروك

وزير الثقافة التونسي عامي 2012 و2013. مواليد 1963. أستاذ جامعي، ألف كتباً، ونشر مقالات بالعربية والفرنسية. ناشط سياسي ونقابي وحقوقي. كان عضواً في الهيئة العليا لتحقيق أَهداف الثورة والعدالة الانتقالية والانتقال الديموقراطي.