محنة الدولة الوطنية العربية

21 ديسمبر 2024
+ الخط -

مائة عام أو أكثر قليلاً عمر الدولة الوطنية السورية. قبلها كانت ولاية عثمانية ثلاثة قرون، وقبلها كانت مقاطعات في شكل نيابات مملوكية تُحكم من القاهرة، وقبلها عاشت دويلات مستقلة منذ تفكّكت الدولة العباسية مع مطلع القرن العاشر الميلادي. وُلدت الدولة السورية الوطنية بحدودها الراهنة في حقبة الانتداب الفرنسي 1920 حتى الاستقلال 1946، وعاشت ديمقراطية غير مستقرّة حتى 1963، وحَكمها حافظ الأسد من 1970 إلى 2000. وكان الحاكم الجمهوري الأول والأخير الذي ينجح في توريث السلطة لأحد أنجاله، بشّار الأسد، الذي ورث دولة أبيه من 2000 حتى قيام ثورات الربيع العربي 2011، حيث مسّت رياح الثورة هواء سورية، فالتهبت أرجاؤها إلى حرب أهلية دامت 13 عاماً حتى سقط النظام في الثامن من ديسمبر/ كانون الأول 2024.

تبلورت في فترة الانتداب الهوية الوطنية، كما تبلورت الأفكار المتصارعة، مثل الوحدة العربية أو الوطنية المستقلة، ومثل التطور الرأسمالي أو التنمية الاشتراكية ومثل التحديث الغربي أو الهوية الإسلامية، وهي جملة الأفكار التي صبغت الصراع الاجتماعي والاقتصادي والسياسي في سورية على مدار قرن. مثلما حدث في بلدان عربية عديدة ترك الاستعمار الفرنسي نموذج الحكم الديمقراطي الهش، حيث سيطرت على مقاليد السلطة الأغلبية السنية من وجهاء الإقطاع وتجار المدن، شهدت الفترة من 1949 - 1970 نحو 20 انقلاباً ومحاولة انقلاب عسكري، وصل بعضها إلى السلطة، وجرى إجهاض بعضها. وفي 1970 قفز اللواء حافظ الأسد إلى السلطة، فانتهت كل فرصة للديمقراطية الهشّة. كما انتهت، في الوقت نفسه، كل فرصة للانقلابات العسكرية التي وسمت السياسة السورية، كأن حافظ الأسد "منح" سورية الانقلاب الأخير. وكان النموذج الناصري في الحكم لا يزال ملهماً، رغم فشل الوحدة بين سورية ومصر وهزيمة جمال عبد الناصر في 1967 ثم وفاته في 1970. وكانت الدولة الناصرية ملهمة لحزب البعث الحاكم، سواء في العراق أو سورية من عدة زوايا: السلطات الواسعة في يد الرئيس، الاقتصاد الاشتراكي مع دور للقطاع الخاص، الدور الكبير للأجهزة الأمنية والمؤسّسات السيادية، الاتكاء على بيروقراطية الدولة في إدارة العملية السياسية، إلحاق التنظيمات الحزبية والشعبية بالدولة، تأميم الإعلام، الإصلاح الزراعي، كفالة ضمان اجتماعي للطبقات الفقيرة.

نجح حافظ الأسد في جعل سورية رقماً صحيحاً ولاعباً مهماً في الإقليم والعالم، رغم أنه جاء في مطلع السبعينيات، حيث ذروة الحرب الباردة بين السوفييت والأميركان، إلا أنه حافظ على توازن حكيم بينهما، رغم أن السوفييت كانوا مصدر سلاحه الأكبر، ورغم الصراعات الحادّة بين العرب المحافظين والثوريين، إلا أنه أيضاً لم ينفخ النار في الصراع، وحاول اعتماد موقف وسط يتجنّب معادلة "مع أو ضد". وساعده ذلك في الحفاظ على الساحة الداخلية السورية من تسلّل النفوذ الخارجي، سواء من الجوار العربي والإسلامي، أو من قوى الهيمنة الدولية. لم تعد سورية في عهد الأسد مضطرّة لتختار الوحدة مع العراق أو مع الأردن أو مع مصر، أو التبعية للغرب في أحلاف مع العراق وتركيا مثل حلف بغداد.

كانت الجمهوريات العربية، في نهاية الالفية الثانية ومطلع الالفية الثالثة، تتنافس في نموذج التسلطية المتمكّنة المستقرّة التي لا يهتزّ لها قائم

من هذه الزوايا كلها، كان حافظ الأسد من صنّاع السياسة الحكماء في الثلث الأخير من القرن العشرين، لكن ثمن ذلك كان فادحاً، لمّا قامت عناصر من الإخوان المسلمين باغتيالات في البلاد، فردّ بعنف شديد، ودخلت سورية في حرب أهلية محلية النطاق قي مدينة حماة بين 1979 – 1982، انتهت بحمامات دم أقدم عليها حافظ الأسد بقلب بارد. خرج النظام منها مستقرّاً، لكنه خرج مجروحاً يحمل وزراً عظيماً، ثم صار الوزر أوزاراً، مع استقرارٍ استمرّ حتى وفاته. بين التاريخين من حمام الدم في حماة 1982 حتى وفاة حافظ الأسد، اكتسبت الجمهورية السورية المستقرّة خصائصها الجوهرية: قمع بوليسي، فساد إداري، طبقات انتفاع ومحسوبية، تفاوت فادح اقتصادي واجتماعي بين من يملكون السلطة والثروة ومن لا يملكون منهما شيئاً .

كانت الجمهوريات العربية، في نهاية الالفية الثانية ومطلع الالفية الثالثة، تتنافس في نموذج التسلطية المتمكّنة المستقرّة التي لا يهتزّ لها قائم. أصبحت الجمهورية هي الرئيس، كما أصبح الرئيس هو الجمهورية. بات صدّام حسين في العراق يهيئ نجليه لحكم العراق من بعده، ومعمّر القذافي في ليبيا يجهز أكبر أبنائه للحكم من بعده، وعلي عبد الله صالح في اليمن يعد ولده لحكم اليمن بعده، وحسني مبارك في مصر يعد أحد نجليه ليحكم مصر من بعده. الرئيس الوحيد الذي نجح أن يورّث بلده لنجله هو حافظ الأسد. 54 عاماً من تاريخ سورية ذي المائة عام هي جملة سنوات الأسد ونجله من بعده في حكم هذا البلد المهم.

استجاب الجيش المصري للمشاركة في تحرير الكويت، لكنه لا يقبل فكرة أن يذهب ليحارب المسلمين في أفغانستان والعراق مع الأميركان

ربما لم يكن أحد يتوقّع أن وصول حافظ الأسد إلى حكم سورية في مطلع 1971 سوف يكون أضخم الأحداث في تاريخها دولةً وطنيةً معاصرة. وبالطبع، لم يكن لأحد أن يتخيّل أن يرتبط تاريخ سورية به، ثم بنجله من بعده أكثر من 50 عاماً، أي أكثر من نصف تاريخ الدولة الوطنية، بما فيه عهد الانتداب السوري. لذلك ليست نهاية حكم آل الأسد في سورية مجرد نهاية لنظام حكم ديكتاتوري، هي نهاية لنصف تاريخ سورية، كما هي بداية الجواب على السؤال الأكبر: محنة الدولة الوطنية في العالم العربي، وبالذات الأنظمة الجمهورية، محنة الفشل في بناء توافق وطني داخلي يعصمها من الاستقطابات الحادّة، ثم الفوضى، ثم الحروب الأهلية، ثم محنة الفشل في بناء مناعة ذاتية وحصانة داخلية تجعل من الوطن حرماً آمناً لا يقفز فوق أسواره الدخلاء والغرباء من الخصوم والأعداء، محنة الفشل في بناء نموذج حكم عقلاني رشيد ينجز تنمية اقتصادية، ويضمن انسجاماً اجتماعياً بين مكوّنات الأمة، ويحمي المال العام من الهدر كما يصون الإدارة البيروقراطية أن يرتع فيها الفساد، كما يضع الاحتياطات العادلة التي تحول دون أقلية تتمتع بخيرات البلاد في مقابل أغلبية تعاني الشظف والشقاء.

من سقوط "البعث" الحاكم في العراق 2003 حتى سقوط "البعث" الحاكم في سورية 2024 عقدان تساقطت فيهما أنظمة جمهورية في تونس ومصر وليبيا واليمن والسودان، تساقطت وسط ترحيب قطاعات شعبية معتبرة، إن لم يكن ثمة إجماع كامل ضدها، فعلى الأقل حصل توافق أغلبيات كاسحة ضدها، رغم تفاوت مقادير السخط والغضب عليها من شعوبها، تبعاً لتفاوت مقادير القمع والبطش التي حكمت بها شعوبها.

أربع محطات وضعت الدولة الوطنية في اختبار عنيف: غزو العراق الكويت 1990، هجوم 11 سبتمبر/ أيلول 2001، ثورات الربيع العربي 2011، حرب طوفان الأقصى 2023. ... أولا، تزامن غزو العراق الكويت مع انكشاف عربي أمام حقيقة أن الخطر على العرب يأتي من العرب أنفسهم، ثم مع انهيار الاتحاد السوفييتي، حليف أكثر الجمهوريات العربية، ومعه انهيار الكتلة الشرقية، وانفراد أميركا بقيادة العالم على العموم، وبالهيمنة على الشرق الأوسط من باب الخصوص. وقد ترتب على ذلك دخول العرب كافة في مفاوضات سلام مع إسرائيل، ترتب عليها اتفاقان مع الفلسطينيين والأردنيين.

 ليست نهاية حكم آل الأسد مجرد نهاية لنظام حكم ديكتاتوري، هي نهاية لنصف تاريخ سورية

ثانيا، هجوم 11 سبتمبر (2001)، أعقبه في 2002 تصعيد أردوغان في تركيا نموذجاً لحكم إسلامي، يكسب عاطفة عوام المسلمين مع ولاء لأميركا والغرب، وإبقاء على متانة العلاقات مع التركية الوثيقة مع إسرائيل، ثم أعقبه في 2003 إسقاط أول جمهورية عربية، ثم أعقبه في 2004 الطرح الأميركي لمفهوم الشرق الأوسط الكبير، وكان يعني كل الدول الاسلامية والعربية الموالية للغرب، باستثناء إيران وسورية. قبل أن تنتهي ولاية جورج بوش الأبن الأولى وتبدأ ولايته الثانية في يناير/ كانون الثاني 2005 كانت فكرة الشرق الأوسط الكبير قد اكتملت بلورتها بما يعني تغيير سلوك بعض الأنظمة، تغيير بعض الأنظمة، الترحيب بحكم إسلاميين مثل أردوغان.

ثالثاً، ثورات الربيع العربي 2011، جزء منها شعبي أصيل له مبرّراته المشروعة، وجزء منها ترتيب أميركي على وجه التحديد، فقد انعقد أول اجتماع يناقش فكرة الشرق الأوسط الكبير في الرباط 2004. وبات حاكم مخضرم مثل حسني مبارك في مصر على علم يقيني بأن الأميركان يفكرون في الاستغناء عنه منذ عام 2005، أي بعد أن ظل يحكم ربع قرن بانتخابات رئاسية مزوّرة وانتخابات برلمانية مصطنعة. لم يكن مبارك يصدّق أنهم يريدون الديمقراطية، وهو في ذلك على حق، كانوا يريدون منه تحديداً قوات مسلّحة مصرية مقاتلة في أفغانستان والعراق. ولم يكن مبارك ليستجيب لهذا الطلب تحديداً، فالجيش المصري استجاب للمشاركة في تحرير الكويت، لكنه لا يقبل فكرة أن يذهب ليحارب المسلمين في أفغانستان والعراق مع الأميركان. قال مبارك لوزير خارجيته أحمد أبو الغيط، في مارس/ آذار 2005، إن الأميركان لا يريدونه في حكم مصر، ثم بعدما أزاحوا برويز مشرف من باكستان 2008 عاد وقال له كلمته الشهيرة "المتغطي بالأمريكان عريان". وكانت عشر سنوات من 2001 - 2011 كافية لتجهيز الأرض لثورات الربيع العربي، أنظمة فاسدة رفع الغرب عنها غطاء الحماية، فلم تصمد أمام غضب الشعوب، حين سُمح لها بالتعبير العلني عن هذا الغضب.

رابعا، كشف "طوفان الأقصى" (2023) محنة الدولة الوطنية العربية التي لم تحرّك ساكناً طوال 15 شهراً جرت خلالها فصول الإبادة العلنية للمقاومة الفلسطينية.