بين الثورة والسياسة
العلاقة بين الثورة والسياسة (سبيلان للتغيير الاجتماعي والاقتصادي والسياسي) جدلية مُعقّدة، كلتاهما من نتائج الحداثة، ومن أسبابها في الوقت ذاته. قبل المجتمعات الحديثة، والدولة الحديثة، لم تكنْ ثورةٌ ولم تكنْ سياسةٌ متاحةٌ كخياراتٍ للفعل العام أو النشاط الجمعي للمجتمعات، كانت الثورة (قبل الحداثة) فتنةً وخروجاً على السلطان الشرعي تستوجب الردّ عليها بالسحق الكامل، وكانت السياسة حقّاً للحكّام ومن حولهم من الطبقات، ثمّ قاد التحديث، الذي قادته الديكتاتوريات المتنوّرة في أوروبا إلى الثورات في بريطانيا القرن السابع عشر، ثمّ أميركا وفرنسا في القرن الثامن عشر، ثمّ كان القرن التاسع عشر رهين الاستعمار وما استتبعه من مقاومة، ثمّ جاء القرن العشرون مُفتتَحاً بالثورتَين الروسيتَين (فبراير/ شباط وأكتوبر/ تشرين الأول 1917)، ثمّ عند منتصفه جرى تعميم الفعل الثوري مُقترِناً بتفكيك الاستعمار، هذا المدّ الثوري أنجز أمرَين مهمَّين؛ أوقف تقديس السلطة وأسقط حصانتها، وأتاح للشعوب حقّ اختيارها ومراقبتها ونقدها ومحاسبتها ومحاكمتها، بل وعزلها، فأصبحت السيادة للشعوب بعدما كانت أبد الدهر للحكّام، ثمّ أتاحت للشعوب حقّ العمل السياسي والنضال السلمي للتغيير الاجتماعي والاقتصادي، وكان ذلك حكراً على أولي الأمر، ومن حولهم، من أقلّية من أهل الحلّ والعقد.
أتاحت الثورة السياسة لعامّة الناس، فلولا الثورة لم تكن السياسة نشاطاً مشروعاً مُباحاً لعامّة الناس، دفع كبار ملوك أوروبا ثمناً باهظاً اضطرهم (بالتدريج) للتسليم بحقّ الشعب في مزاولة أنشطة السياسة والحكم والإدارة العامة. عند منتصف القرن السابع عشر، اجتُزَّ رأس ملك بريطانيا، وعند خاتمة القرن الثامن عشر قُطِعت رقبة ملك فرنسا، وبين قطع رأسَي الملكَين ما يقرب من قرن ونصف القرن كانت مقدار ما سبقت به بريطانيا خطى فرنسا في مضمار التطوّر الديمقراطي. كانت بريطانيا الأسبق في التحوّل الديمقراطي، وترتب على هذا السبق أن كانت الأسبق في التحوّل نحو المجتمع الصناعي وما استتبعه من تغيير هائل، سواء في بنية المجتمع أو الاقتصاد أو الثقافة أو السياسة، أو في مكانة بريطانيا ووزنها في أوروبا، ثمّ في العالم كلّه، حتّى منتصف القرن العشرين.
ثورة يناير... أسيرة تناقضات التاريخ الحديث، الذي أنتجها
أدخلت الثورة عامّة الناس في مركز الفعل السياسي المُؤثّر والفعّال، ثمّ السياسة ضمنت اعتدال الميزان، إذ كفلت السياسةُ للسلطة التي اختارها الشعب حقوقَ احتكار القوّة الشرعية، وبسط كلمة القانون على الجميع من دون تمييز ولا استثناء، كما خوّلتها حقّ اتخاذ التدابير الدستورية والقانونية كافّة، التي تكفل حفظ النظام العام، وانتظام مرافق الحياة، وانصياع الخاصّة قبل العامّة للدستور والقانون، لا يكفي أن تُتاح السياسة للعامّة، إنّما يلزم أن يقترن ذلك بضوابط وأنظمة صارمة، حتّى لا تكون إتاحة السياسة مُقدّمةً لإباحة الفوضى، ثمّ اختلال النظام، ثمّ سقوط القانون، ثمّ الانزلاق نحو المجهول. نجحت أوروبا (ومن سار في دربها) في إنجاز منظومات عملية مستقرّة لمزاولة السياسة والتغيير والتداول على السلطة، بما يغني عن الحاجة إلى ثورات جديدة، وبما يحمي من الانجرار صوب الفوضى، بين الثورة والفوضى مساحات غير محدودة من تنفيس الغضب العام بصورة سلمية آمنة بدءاً من حرّيات الكتابة والتعبير، إلى حرّيات التظاهر والاحتجاج والإضراب السلمي، إلى مزاولة التعبير، ثمّ التغيير عبر الاحتكام إلى صناديق الانتخاب والاستفتاء العام.
في مصر والشرق العربي والشام وشمال أفريقيا، لم نكن بعيدين من التطوّر الرأسمالي الوليد في أوروبا القرن الثامن عشر، عرفنا رأسماليات ناشئة اقترنت بضعف السلطات المحلّية صاحبة الحكم الفعلي، مع ضعف السلطة ذات السيادة العُليا في المركز الإمبراطوري في إسطنبول، وكان نموذجها ثورات المصريين (الفقهاء والتجّار والصنّاع وأهل الحواضر والمدن) على مدار النصف الثاني من القرن الثامن عشر ومطلع القرن التاسع عشر، التي اختتمت بعزل والٍ غير مرغوب وتولية والٍ جديد (محمّد علي باشا)، وقد استجابت السياسة الإمبراطورية في إسطنبول لإرادة الطبقات الحضرية الثائرة في القاهرة.
صحيح أن محمّد علي باشا سحق الحالة الثورية الشعبية، وأسّس ديكتاتوريةً جديدةً، لكنّه دشّن الثورة من أعلى، استأثر بالسلطات كافّة، وجمع في يده الخيوط جميعها، لكنّه أعاد توجيه دفّة البلاد نحو التحديث، ولو بالقسر والإكراه والعنف، أنهى الحالة الثورية الشعبية، لكنّه بدأ ثورته، التي قطعت وشائج مصر مع عصرها العثماني المملوكي الذي هو (بكلّ مزاياه وعيوبه) عصر وسيط، وضع الباشا مصر (بالعنف) في طريق الحداثة، حافظ على استقلال قراره لكن من الناحية الموضوعية ألحق مصر بأوروبا، اجتهد في حفظ استقلال قراره السياسي، لكن ما قرّره من سياسات تعليمية وصحّية وزراعية دمج مصر في الاقتصاد العالمي، الذي هو اقتصاد تقوده أوروبا، وضع الباشا بذور مجتمع حديث، شاء ذلك أم لم يشأ، وقصده عمداً أم لم يقصده، وبين وفاته عند منتصف القرن وعزل حفيده إسماعيل عند خاتمة الربع الثالث من القرن التاسع عشر، كانت ثورة الباشا في التحديث من أعلى بالعنف والقسر قد أنتجت مجتمعاً جديداً تقوده طبقات هي ثمرات التعليم الحديث والاقتصاد الحديث، وقد برزت ملامحها بوضوح مع فصول الثورة العُرابية على مدى ستّ سنوات من إفلاس خزانة البلد رسمياً، حتّى سقوطها تحت الاحتلال العسكري البريطاني.
أخطاء السياسة يمكن علاجها بثورة، وكذلك أخطاء الثورة يمكن علاجها بسياسة، والثورة مثل يوم القيامة تأتي بغتةً، لكنّ السياسة عمل عقلاني ممكنةٌ مزاولته بإرادة واعية
تراجيديا مصرية مؤلمة، ثورة يعقبها احتلال أجنبي مسلّح عند خواتيم القرن التاسع عشر، فتكرّر شعور المصريين بالمرارة، التي ذاقوها من تراجيديا ثورتهم عند مطلع القرن ذاته، حين اختاروا الباشا ليحكم بالعدل، فلمّا تمكّن حكم بقبضة من حديد ونار، وتكرّرت التراجيديا الثورية مرّة ثالثة مع ثورة 1919، إذ لم تسفر (رغم التضحيات الهائلة) إلّا عن تغيير اسم الاحتلال الرسمي الفعلي إلى استقلال رسمي مع احتلال فعلي، ثمّ تكرّرت التراجيديا الثورية للمرّة الرابعة مع ثورة الضبّاط الأحرار، عند منتصف القرن العشرين، لتبلغ التراجيديا ذروتها الأعلى، فللمرّة الأولى في تاريخ المصريين، منذ دخلها جيش الملك الفارسي قمبيز الثاني عند منتصف القرن الأول قبل الميلاد، وعلى مدى ألفي عام، يحكم مصر حكّام مصريون من آباء وأمّهات مصريين، ومن فقراء المصريين، لكن كانت المباغتة أنّ هؤلاء الحكّام الجدد أسّسوا باسم الوطنية ديكتاتوريةً أشدّ عتواً من ديكتاتوريات الغرباء والغزاة والأجانب والدخلاء. تحت الحكم الوطني صار القهر تربيةً وطنيةً وصار اغتيال الحرّيات والحقوق المدنية صموداً في وجه الاستعمار والإمبريالية.
ثمّ عندما قامت ثورة يناير (2011) كانت أسيرة تناقضات التاريخ الحديث، الذي أنتجها، وكانت ذروته، كانت ابنة التناقضات الثلاثة؛ تحديث من أعلى بدأه الباشا واستمرّ قرنَين من الزمان، ظلّت فيها أجهزة الدولة هي التي ترسم التوجّهات العُليا وعلى الشعب التنفيذ؛ تحديث من أسفل وفي الاتجاه المضادّ صنعته الحالة الإسلامية الجماهيرية، التي حلمت باستعادة الخلافة واسترداد مجد الإسلام، واستهلكت طاقة الأجيال في إحياء عادات الأفراد في المجتمع الإسلامي الأول من الجلباب إلى المسواك؛ جيش الباشا، الذي كان ولا يزال هو الهيكل العظمي الذي ينتصب على قوامه قوام الدولة المصرية ذاتها، سواء في عهود الباشا وذرّيته أو في العهود الجمهورية من حكم رؤساء الجمهورية من ضبّاط الجيش.
التحديث من أعلى (خلال 200 عام) صنع طبقات مدنية حديثة، لكنّها ضعيفة هشّة، ظهر ضعفها وتجلّت هشاشتها في كلّ طلعة ثورة بادرت بها، من ثورة العُرابيّين ضدّ الخديوية في ميدان عابدين (سبتمبر/ أيلول 1881)، حتّى ثورة الطبقات الوسطى في ميدان التحرير (يناير/ كانون الثاني 2011)، بين الميدانين مسافة قصيرة يمشيها المصريون على الأقدام، وبينهما في الزمن 130 عاماً، لكنّ بينهما تقارباً شديد الشبه من ناحية الاندلاع في عنان السماء سريعاً، ثمّ السقوط في قاع سحيق بصورة أسرع. ثمّ كان التحديثُ المضادُّ من أسفل القوّةَ التنظيميةَ ذات الجماهيرية الشعبية والجاهزية العالية، فوقعت الدولة بمؤسّساتها كلّها عبر انتخابات غير مزوَّرة، لكنّها في الوقت ذاته غير عادلة في أكبر حركات التحديث الرجعي المضادّ التي عاشت في خصام (تحت الأرض وفوق الأرض) مع دولة التحديث من أعلى، استلموا مفاتيح السلطات واعتلوا المؤسّسات، لكن لم يفلحوا في ترويضها، ولم تقبل الخضوع الفعلي لهم. ومن ثمّ كانت الخلاصة أن تؤول الثورة والدولة وقطاعات واسعة من المجتمع هيكلاً عظمياً للدولة المصرية، وهنا تبلورت التراجيديا في أشدّ أشكالها دراميةً؛ أفلحت ثورة يناير (2011) في القضاء على حكم ديكتاتوري نصف عسكري ونصف مدني، لتنتهي بحكم ديكتاتوري عسكري بالكامل.
تحت الحكم الوطني في مصر صار القهر تربيةً وطنيةً، واغتيال الحرّيات صموداً في وجه الاستعمار والإمبريالية
تاريخ المصريين مع الثورات متقطّع غير موصول على مدى القرنَين الأخيرَين، شموع ضعيفة في ظلام كثيف تعصف فيه الرياح فلا تكاد تشتعل وتضيء حتّى تخبو وتنطفئ، مرّة في خواتيم القرن الثامن عشر، مرّتين في مطلع وخواتيم القرن التاسع عشر، مرّة في مطلع القرن العشرين ثمّ عند منتصف القرن ذاته، ثمّ الأخيرة عند مطلع القرن الحادي والعشرين. جيل الشباب في الثورة العُرابية هو الشيوخ والعجائز الذين قادوا ثورة 1919، والأطفال الذين ولدوا عند ثورة 1919 هم الذين قادوا ثورة 1952 (جمال عبدالناصر من مواليد 15 يناير 1918)، ثمّ الطبقات الوسيطة التي كانت، وقوّة ثورة يناير هي الطبقات التي انتفعت من السياسات الاجتماعية لثورة 1952.
أحد الأسباب الكبرى لإخفاق ثورة يناير (2011) أن من قادوها من كبار السن الذين هم خلاصة القرن العشرين، ولا يمكن بحال حسابهم على زمن الثورة عند مطلع القرن الحادي والعشرين، كلّ من تقدم للقيادة كان يحمل في أعماقه شيئاً من أحلام القرن العشرين وأفكاره وأيديولوجياته وعقائده، الوقود الكامن للثورة كان أحلام الشباب الذين يرون المستقبل أمامهم فسيحاً في آفاق القرن الحادي والعشرين، لكنّ القيادة الفعلية من كبار السن (من مختلف التوجّهات) كانت رجعية فكرية من مخلّفات وفضلات وبواقي الأفكار المستهلكة من القرن العشرين.
أخطاء السياسة يمكن علاجها بثورة، وكذلك أخطاء الثورة يمكن علاجها بسياسة، والثورة مثل يوم القيامة تأتي بغتةً، لكنّ السياسة عمل عقلاني ممكنةٌ مزاولته بإرادة واعية، الثورات ليست بيد أحد، لكن بيد كلّ أحد أن يبادر بعمل سياسي يطرح على الشعب السؤال الأكبر: كيف تخرج مصر من محنتها الحاضرة من دون ثورة، ومن دون فوضى، ومن دون استمرار الأوضاع الخاطئة على ما هي عليه.