مجدّداً... حديث الفساد في موريتانيا
يأبى الفساد في موريتانيا إلا أن يحتلّ الصدارة في الإعلام الرسمي، والموازي على حد السواء بالفعل أو بالقوة، فلا يكاد الحديث يخمد عن تناول فضيحةٍ كقضية الأراضي، أو صفقة المحروقات أو مصفاة البترول، أو الصرف الصحي أو خليج الراحة أو مستشفى الأمومة والطفولة أو شركة الماء والكهرباء، إلا وارتفعت الأصوات من جديد على وقع ملف فسادٍ آخر مدوّ يُنسي كل ما سبقه. ولعل غرق معظم أحياء العاصمة نواكشوط قبل شهر في الماء الآسن، جرّاء الأمطار التي تهاطلت عليها، شاهد على ضعف بل غياب شبكة الصرف الصحّي التي أنفقت عليها مليارات الأوقيات (العملة الموريتانية) المتأتية من جيوب دافعي الضرائب، وذلك بالتعاون مع الصين.
وفي هذا السياق، يأتي الملف الذي أثاره المفتش العام للدولة منذ أسابيع في بيانه الصحافي عن نشاط مؤسسته خلال الأشهر الستة المنصرمة من السنة الجارية (2022). وتعد المفتشية العامة للدولة مؤسسة رقابية تكلف، من بين مهام أخرى، برقابة التنظيم والتسيير الإداري والمالي والمحاسبي لكل المصالح العمومية للدولة والمجموعات الإقليمية والمؤسّسات العمومية والشركات ذات رأس المال العام والهيئات الخصوصية المستفيدة من الدعم المالي للدولة. يقوم بعمل المفتشية طاقم مؤلف من المفتشين والمفتشين المساعدين والمدققين، وهم كلهم محلفون ويتقاضون رواتب عادية. وقد شملت عملية التحقيق مبلغ 60 مليار أوقية (150 مليون دولار) موجّهة إلى مشاريع التنمية الاقتصادية والاجتماعية والبيئية في بلد غني بمقدراته من الثروات المعدنية والسمكية والحيوانية والزراعية، ولكنه فقير حسب تقارير المنظمات الدولية التي تفيد أحدثها بأن نسبة الفقر قد بلغت 47% في المدن و70% في الريف. ومن 60 مليار أوقية صرفت منها 13 مليار أوقية، أي نحو 23% على مشاريع وفواتير وهمية تذكّرنا ببعض المشاريع الوهمية في موريتانيا خلال الحكم السابق كالمسجد الجامع في نواكشوط والجسر الرابط بين ضفتي نهر السينغال ومصنع تركيب الطائرات... إلخ، وكذلك ملفات البنى التحتية التي لم تمرّ على البرلمان، فضلاً عن تدمير بعض المؤسّسات الحيوية في الدولة، كشركة الاستيراد والتصدير سونمكس والخطوط الجوية الموريتانية... وغيرها. حيث تنوعت ممارسات الفساد، ولم تسلم منها حتى الهبات، وأدّت إلى تفقير الشعب، على الرغم من المقدّرات الهائلة من معادن وثروة حيوانية وغيرها. .. وقد أكّد المفتش العام للدولة الموريتانية عمل هيئته على وضع خريطة شاملة لمواجهة الفساد داخل كل وزارة.
من 60 مليار أوقية صرفت منها 13 مليار أوقية، أي نحو 23% على مشاريع وفواتير وهمية
ولئن كانت الإطلالة الإعلامية للمفتش العام قد ألقت الضوء على موضوعٍ طالما تعطّش الموريتانيون للمعلومات الموثوقة حوله، إلا أن جملة من التساؤلات تبقى مطروحةً في ما يخصّ التوقيت والطريقة والتفاصيل التي أحاطت بهذه العملية.
لماذا تكون مفتشية الدولة هي التي تقوم بهذا الدور الإعلامي، وليس محكمة الحسابات، وهي هيئة دستورية؟ لماذا لا يرسل تقرير المفتشية العامة إلى مجلس الوزراء، ويتولى الناطق الرسمي باسم الحكومة الإفصاح عما جاء فيه؟ هل سلم الموضوع من الاستغلال السياسي والبحث عن مكاسب تدعم إنجازات الرئيس الحالي، محمد ولد الغزواني، بعد ثلاث سنوات من الحكم تميّزت بتضافر جملة من التحدّيات، كجائحة كورونا وأزمة الطاقة والغذاء، واللتين فاقمتهما الحرب الجارية بالأصالة والوكالة بين أطراف دولية وإقليمية متعدّدة؟
ما هي القطاعات التي حدثت فيها هذه التجاوزات الشنيعة التي تمنع عامّة الشعب من التمتع ببعض حقوقه المكفولة شرعاً وأخلاقاً ودستوراً في مجالات الصحة والتعليم والتشغيل والأمن؟ من هم المسؤولون المعنيون بالتجاوزات التي ذكرتها المفتشية، وما هي العقوبات التي ستطبق عليهم؟ ما هي ضمانات إنزال العقوبات بمقترفي الجرائم الاقتصادية والمالية، علماً بأن طريق الشفافية لا يزال طويلاً في بلد يحتل الرتبة 125 من أصل 130 دولة، حسب مؤشّر سيادة دولة القانون نسخة العام 2021. وتجدر الإشارة إلى أن المفتشية العامة للدولة في موريتانيا جرى إلحاقها برئاسة الجمهورية منذ سنة تقريباً، وذلك في إطار الدعم المؤسسي لجهود محاربة الفساد التي يتخذ منها كل نظام جديد رداءً وشعاراً ودثاراً منذ سنة 1978، للبحث عن دعم شرعية تشوّش عليها غالبا طريقة الوصول إلى الحكم وضعف الإنجاز.
كيف لا تكون عملية محاربة الفساد فسادا في حد ذاتها؟ فهل يمكن وضع حد للإفلات من العقاب الذي يشجع الاعتداء على المال العام؟ أليست عمليات التسوية التي يسمح بها القانون الحالي مشجعة على نهب المال العام؟ هل تمكن الاستفادة من الممارسات والتجارب الناجحة في بلدان أخرى مثل سنغافوره ذات الترتيب العالي، حسب مؤشّر مدركات الفساد، حيث احتلت الرتبة الخامسة في نسخته الأخيرة.
زيادة الشفافية في تناول الإنفاق العام، وتكثيف عمليات التحقيق على مستوى البرلمان. .. هذه بادرة جيدة في مجال الشفافية في عمل إحدى الهيئات الرقابية في الدولة، إلا أن هناك خشية على مآل الأموال المسترجعة جرّاء عملية التفتيش: فكيف يجري الحفاظ عليها من عملية نهب وتحايل أخرى محتملة، خصوصا إذا لم يجر تغيير القائمين على إدارة المال العام، كالأمناء العامين للوزارات والمديرين الماليين والمحاسبين ومديري المشاريع. وفي ظل عدم تطبيق إلزامية التصريح بالذمة المالية ونشرها للعموم عند الاقتضاء. وقد ذكر المفتش العام أن العملية لن تكون انتقائية، ولن تفرّق بين المشمولين في ملفات الفساد على أساس الانتماء السياسي أو الجهوي أو الحظوة الاجتماعية، كما كان سائدا في الفترات الماضية.
أكّد المفتش العام للدولة الموريتانية عمل هيئته على وضع خريطة شاملة لمواجهة الفساد داخل كل وزارة
ومن الوجاهة بمكان أن يتساءل المواطنون الموريتانيون عن آفاق محاربة الفساد وجدّيتها مع اقتراب الاستحقاقات الانتخابية البلدية والنيابية والرئاسية واستمرار سياسة "العقد الاقتصادي" الذي بمقتضاه توزّع العطاءات والامتيازات على السياسيين من خلال إعادة تعيين (تدوير) بعض الموظفين من ذوي السوابق التسييرية غير الناصعة رؤساء لمجالس إدارات بعض المؤسّسات العمومية، أو حتى في مناصب قيادية سياسية أو إدارية.
وفي الخلاصة، يتوسّم الموريتانيون خيرا في هذه الخطوة على درب الشفافية في إدارة المال العام، ويودّون في الوقت ذاته ترسيخها وتثبيتها بإجراءات أخرى مصاحبة، كإنشاء جهاز وطني لمحاربة الفساد ينسّق جهود البلد في هذا المضمار ضمن استراتيجية وطنية لمحاربة الفساد، تشارك الجهات المعنية بها في إعدادها وتطويرها وتنفيذها ومتابعتها وتقييمها. إنشاء جهة مركزية تابعة لرئاسة الجمهورية يعهد إليها بتنسيق جهود محاربة الفساد في الدولة على مستوى الحكومة والقطاع الخاص ومنظمات المجتمع المدني والهيئات الأكاديمية وشركاء التنمية من ذوي الخبرة الثابتة في المجال، وتسهر على متابعة تطبيق القوانين النافذة بهذا الخصوص، كمقتضيات القانون المتعلق بالإفصاح عن الذمة المالية للموظفين المشمولين به، وتشكيل لجان تحقيق برلمانية جديدة للتدقيق في تسيير كل المرافق العمومية.
وإلى هذا الأمر، هناك خطوات واجبة، تسعف في محاربة حقيقية للفساد في موريتانيا: دعم استقلالية القضاء وإنهاء ممارسة الإفلات من العقاب، من خلال التشريعات والمخصصات المالية وتطوير الموارد البشرية، وتمكين الصحافة الحكومية والخاصة الاستقصائية من لعب دورها في كشف الممارسات الفاسدة والتشهير بأهلها وضمان نيلهم الجزاء المناسب لأفعالهم.
كيف لا تكون عملية محاربة الفساد فساداً في حد ذاتها؟ فهل يمكن وضع حد للإفلات من العقاب الذي يشجع الاعتداء على المال العام؟
تشجيع منظمات المجتمع المدني على لعب دورها الفعّال في الرقابة على العمل الحكومي، انسجاما مع الالتزامات الدولية والإقليمية، كالاستراتيجية الأممية لمحاربة الرشوة التي انضمت إليها موريتانيا، وصادقت عليها منذ ما يقارب عشرين سنة، وكذلك الاستراتيجيتين العربية والافريقية في الموضوع نفسه.
تعزيز القدرات المؤسسية والفنية والتنظيمية لمنظمات المجتمع المدني العاملة في مجال محاربة الفساد. .. تطوير سياسة تثمين المصادر البشرية من خلال الاكتتاب الشفاف للأفراد وإعداد خطة لتسيير المسارات المهنية ورفع القدرة الشرائية والعمل بالمكافآت والتشجيع. .. تعميم استخدام الكاميرات في المرافق العمومية، وخصوصا المخازن والمستودعات والمحاور الطرقية. .. توسيع استخدام الخدمات الإلكترونية وتقليل استخدام النقود في التعاملات الحكومية، وخصوصا في مجالات الصفقات العمومية والضرائب. .. تعزيز قدرات محكمة الحسابات والهيئات الأخرى المكلفة بالرقابة والتفتيش. .. تشجيع النزاهة والشفافية والمسؤولية والحكامة الرشيدة في تسيير القطاعين العام والخاص والمجتمع المدني. .. تسهيل ودعم التعاون الدولي والمساعدة الفنية لأغراض الوقاية من الفساد ومكافحته بما في ذلك استرجاع الأموال المختلسة. .. وضع إطار قانوني متناسق وفعال يتماشى مع المواصفات الدولية في مجال مكافحة الفساد. .. وضع آليات عملية لمتابعة الملفات ذات العلاقة بالفساد، والمخالفات ذات الصلة المحالة إلى الهيئات القضائية. .. الحرص على نشر تقارير الهيئات الرقابية وخاصة محكمة الحسابات وتوصيلها للجمهور من خلال وسائل التواصل المتاحة مكتوبة كانت أم مسموعة أم مرئية. .. زيادة وعي مكونات المجتمع بمخاطر الفساد على عملية التنمية في البلد وزعزعة الثقة بين السلطة القائمة والمواطنين والإضرار بسمعة الدولة وتقويض دولة القانون. .. إعداد مناهج دراسية تجسّد مكافحة الفساد ودمجها في برامج التعليم الابتدائي والثانوي والعالي. .. دمج رسائل محاربة الفساد في الفعاليات الثقافية كالكتابات الأدبية والمسرح وغير ذلك.