هل تعصف رياح ولاية ثالثة للرئيس بالاستقرار في السنغال؟
اندلعت في الأول من يونيو/ حزيران الحالي مظاهرات عنيفة في دكار عاصمة السنغال (18 مليون نسمة، في غرب أفريقيا، 200 ألف كيلومتر مربع، نصيب الفرد فيها من الدخل القومي 1575 دولاراً في سنة 2023). وكانت السنغال تتميّز بالاستقرار السياسي، لم تعرف انقلاباً عسكرياً منذ استقلالها عن فرنسا سنة 1960. وتناوب على رئاستها عدة رؤساء مدنيين، منهم الرئيس الحالي ماكي صال الذي فاز في الانتخابات الرئاسية سنة 2012، وأعيد انتخابه سنة 2019 خمس سنوات أخرى، بعد أن خفّض مدة الرئاسة من سبع سنوات إلى خمس.
أدّت المظاهرات إلى خسائر بشرية ومادية جسيمة، حيث توفي 23 شخصاً مقابل 14 في سنة 2021. وشوهدت سيارات نقل محترقة، ومبان عمومية محطّمة، ومحلات تجارية منهوبة، وبنوك مغلقة، بالتوازي مع ندرة الأوراق النقدية في الصرافات الآلية، والهجوم على مواقع إلكترونية حكومية والعبث بها، وقطع خدمة الإنترنت الجوال. وتوقفت جامعة دكار عن التدريس، حيث كانت مسرحاً لمواجهات عنيفة بين الشرطة والمتظاهرين، واستهدفت المصالح الفرنسية. كما أغلقت الدولة قنصلياتها في الخارج، بعد اقتحام بعضها وتعرّضها للنهب، كما حدث في باريس وبوردو الفرنسيتين. وقد فتحت السلطات القضائية جملة تحقيقات لإلقاء الضوء على المظاهرات العنيفة التي دامت 72 ساعة. السبب المباشر هو الحكم على المعارض البارز عثمان صونكو بالسجن سنتين نافذتين، وغرامة مالية قدرها ألف دولار، بتهمة إفساد الشباب، حيث جرى توجيه اتهامات للسياسي بارتكاب جرائم الاغتصاب وتهديدات القتل، بناءً على شكوى تقدّمت بها موظفة في صالون تدليك منذ مارس/ آذار 2021، ولكن المحكمة برّأته من تلك التهمة. وقد دخل صونكو الذي لم ينجح في الانتخابات الرئاسية السابقة في 2019، وكان يرفع شعار محاربة الفساد الذي ينخر في جسم الدولة، والتحلل من الهيمنة الفرنسية على السنغال وثرواتها، وهو خطاب شعبوي يدغدغ عواطف الشباب المعرّض للبطالة والتهميش. وقد احتل المرتبة الثالثة بنسبة 15% من أصوات الناخبين، بعد الرئيس الحالي ماكي صال ورئيس الوزراء السابق إدريسا سيك، وانضم الأخير فيما بعد إلى التحالف الحاكم، وهو حالياً رئيس المجلس الاقتصادي والاجتماعي والبيئي.
تستحوذ العاصمة دكار وحدها على 23% من إجمالي السكان، كما أن 58% من السكان في سن العمل لم تذهب إلى المدرسة حسب بيانات 2018
المجتمع السنغالي فتي، تقل أعمار 50% من السكان عن 18 سنة، يسكن 55% من السكان في الوسط الريفي، وتشكل فئة العمر 15-24 نسبة 33% منه في سنة 2018، كما أنه مركّز إلى حد كبير في المناطق الحضرية، إذ تستحوذ العاصمة دكار وحدها على 23% من إجمالي السكان، كما أن نسبة 58% من السكان في سن العمل لم تذهب إلى المدرسة حسب بيانات 2018.
وكان المعارض البارز مفتّش ضرائب سابقاً 15 سنة، وفي سنة 2014 أسّس حزبه السياسي "الوطنيون الأفارقة في السنغال من أجل العمل والأخلاق والأخوة" (PASTEF) رسمياً، بينما كان موظفاً حكومياً. ولكن إقالته في عام 2016 كانت هي التي ساهمت في دفعه نحو الساحة السياسية. في العام التالي، 2017، شارك في الانتخابات التشريعية، وفاز بمقعد في البرلمان الوطني. ومنذ 2022، وهو عمدة زيكنشور، في نطاق تحالف "لنحرّر السنغال" الذي أنشأه مع المعارض خليفة صال، الواقعة في الجنوب، وهي المدينة في ولاية كازامانس التي تحتضن حركة انفصالية تاريخية عن السنغال. ولتمويل أنشطة حزبه، اختار صونكو التمويل التشاركي. وكانت حملته لجمع التبرعات التي أطلقت في منتصف يناير/كانون الثاني قد جمعت أكثر من 300 مليون فرنك غرب أفريقي (480 ألف دولار) في 24 ساعة، وهذا غير مسبوق لحزب سياسي في السنغال.
لافتٌ للانتباه أن معارضي الرئيس ماكي صال والناوين للترشّح لرئاسيات 2024 هم ما بين مقصي عن طريق العدالة مثل كريم واد بتهمة الثراء غير المشروع 2015، أو تبديد المال العام للعمدة السابق لمدينة دكار خليف صال 2018، أو مهدّد بذلك كالعمدة الحالي لمدينة داكار بارتيملجاز الذي يواجه تهمة القتل بحقّ طالب سنغالي من الحزب الحاكم في سنة 2011. وهو ما يغذّي ويقوي تهمة المؤامرة السياسية الذي يرددها صونكو وأتباعه. ولئن كان السبب المباشر للمظاهرات هو الحكم على عثمان صونكو بصورة جائرة، كما يدّعي أنصاره، وأن القضاء استعملته السلطة التنفيذية، فإن السبب غير المباشر يرجّح أن يكون الخوف من تقدّم الرئيس الحالي ماكي صال لولاية ثالثة في فبراير/ شباط من السنة المقبلة (2024)، وهو ما أثار جدلاً سياسياً وقانونياً دستورياً كبيراً في الساحتين السياسية والقانونية في السنغال. ومع أن الفريق الحاكم قد حدّد بالفعل الرئيس الحالي مرشحه للمعركة الانتخابية المقبلة، إلا أن المعني نفسه لم يقبل أو يرفض رسمياً هذا العرض.
تنازلات مرجّحة من السلطة وأنصار المعارض صونكو تضمن الحد الأدنى من حفظ ماء الوجه لكل طرف
ويبقى السؤال المطروح: إلى أين تتجه الأحداث في الأسابيع المقبلة، في ظل الإصرار القوي لأنصار المرشح صونكو على استخدام لغة الشارع والضغط من خلاله على الرئيس الحالي ماكي صال مقابل تمسّك هذا الأخير بحقّه الدستوري في ولاية ثانية مدتها خمس سنوات؟
ترتسم الاحتمالات التالية: أولاً، اعتقال المرشّح صونكو، ويرجّح أن ينزل أنصاره بأعداد أكبر في دكار وزيكنشور، وأن يحدث احتكاك مع السلطات الأمنية تكون نتيجته زيادة في الموتى، وتوسّع في استهداف الممتلكات والمنشآت الحكومية بالتدمير والنهب والحرق. وفي هذه الحالة، تكون معركة عضّ الأصابع بين المتنازعين، ويرجّح أن يستتب الأمر في النهاية لصالح الحكم الحالي، مع أن الكلفة السياسية والاجتماعية والاقتصادية ستكون كبيرة جداً.
ثانياً، عدم اعتقال صونكو، وفتح مجال للمساعي التصالحية، والتي بدأت مع دخول شيخ الطريقة المريدية في السنغال على الخط، حيث التقى الرئيس ماكي صال في مدينة طوبا. ويرجّح أن تكون تهدئة الوضع على بساط البحث. ويتوقّع أن ينجم عن هذه المساعي إطلاق سراح بعض المعتقلين كالأطفال وغيرهم، ممن لم يتورّطوا في مهاجمة عناصر الأمن.
ثالثاً، تنظيم مشاورات بين الأحزاب الرئيسة في البلد لتدارس موضوع الانتخابات المقبلة، وربما يوجد حل يستبعد طرفي النزاع الحاليين (ماكي صال وصونكو) والبحث عن مرشّحين بدلاء، يضمنان استقرار البلد ومصالحه العليا، خصوصاً بما يخدم استغلال الغاز الذي يُفترض أن يبدأ في الربع الأخير من السنة الجارية على الرغم من تأجيله مرّتين.
أرجّح المسار الثالث، والذي قد يتضمن تنازلات من الطرفين تضمن الحدّ الأدنى من حفظ ماء الوجه لكل طرف، على قاعدة تقديم المصلحة العامة للبلد على غيرها، كما كان السنغاليون دائماً قادرين على تجاوز هذا النوع من الأزمات.