ما يقوله الرأي العام العربي في الحرب على غزّة

14 يناير 2024
+ الخط -

تستدعي نتائج استطلاع الرأي العام العربي التي نشرها المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، الأربعاء الماضي (10/1/ 2024)، التوقف عندها، والنظر فيما تحمله من دلالات، كونها تخصّ مواقف الشارع العربي حيال الحرب الإسرائيلية على غزّة، بالاستناد إلى عيّنة تكونت من ثمانية آلاف مستجيب ومستجيبة للاستطلاع، توزّعوا على 16 بلداً عربياً، يشكل مجموع سكانها ما يقارب 85% من تعداد سكان البلاد العربية مجتمعة.

يدخل الاستطلاع في سياق التقليد الذي دأب عليه المركز العربي منذ تأسيسه، ولعل استمراريّته في إجراء الاستطلاعات بشأن القضايا السياسية والاجتماعية تؤكّد إيلاءه أهمية لتطويرها، بغية تحقيق قدر أكبر من المشاركة المجتمعية العامة، وتأكيداً على دور استطلاعات الرأي العام، بوصفها ابتكاراً اجتماعياً، ووسيلةً لسبر مواقف (وميول) الأفراد والجماعات المختلفة في المجتمعات، حيث يمكنهم التعبير فيها عن رأيهم الصريح في القضايا والمسائل السياسية والاجتماعية التي تهمّهم، وتمسّ قضايا حياتهم، لكن هذا التقليد الهام لا يحتلّ مع الأسف مكانته المطلوبة في بلداننا العربية، على الرغم من أن السنوات الأخيرة شهدت جهوداً ومحاولات لتعزيزه، بغية الاستفادة منه لإيجاد رأي عام، الذي تعمل الأنظمة العربية على كبْته وتغييبه، بالنظر إلى دوره في ممكنات تحقيق الإصلاح السياسي والانتقال الديمقراطي، وبناء دولة حديثة، تتّسع لمجموع مواطنيها.

 لم يطالب المستطلعون بحشد الجيوش والتدخل عسكرياً، بل اعتبر 36% منهم أن الإجراء الأهم الذي يمكن أن تتخذه حكومات بلادهم قطع علاقاتها مع إسرائيل، أو إلغاء عمليات التطبيع معها

يأتي الاستطلاع فيما تستمرّ حرب الإبادة الإسرائيلية على الفلسطينيين في قطاع غزّة، وتتواصل معها معاناة الفلسطينيين وآلامهم، فيما يشعر غالبية أبناء الشارع العربي بأن دولهم لم تقدّم المطلوب، وعليه جاء الاستطلاع غنياً بالأرقام والمؤشّرات والدلالات التي تعكس مواقف الشارع العربي وآراءه حيال الحرب الإسرائيلية والقضية الفلسطينية، بالابتعاد عما تسوّقه الأجهزة الإعلامية والدعائية للأنظمة العربية، التي لا تعكس الواقع في البلدان العربية بأي حال، الأمر الذي يشكّل مادّة خام أولية وغنية للباحثين المهتمين بمعرفة آراء الشارع فيها بشأن إسرائيل، وحرب الإبادة التي تشنّها منذ أكثر من ثلاثة أشهر على غزّة، وحول القضية الفلسطينية، التي تعمقت مركزيتها لدى الغالبية مع نشوب هذه الحرب، حيث اعتبر 97% من المستجيبين أنهم يشعرون بضغط نفسي بدرجاتٍ متفاوتة، نتيجة للحرب، بل إن 84% قالوا إنهم يشعرون بضغط نفسي كبير، ما يعني أنهم يتعاملون مع هذه القضية قضية ضاغطة، وتمسّهم بشكل مباشر. كما تدلّل المتابعة الشديدة من المستطلعين لوقائع الحرب على أهميتها بالنسبة للمواطنين العرب، حيث إن 80% من المستطلعين يداومون على متابعة أخبار الحرب، مقابل 7% قالوا إنهم لا يتابعونها، لكن هذه المتابعة لا تقتصر على قنوات التلفزيون، التي لا تتجاوز نسبة متابعيها 54%، مقابل أن نسبة 43% تتابعها على شبكة الإنترنت. إضافة إلى أن 92% من المستطلعين اعتبروا أن القضية الفلسطينية هي قضية جميع العرب، وليست قضية الفلسطينيين وحدهم. واللافت أن هذه النسبة أصبحت غير مسبوقة لدى مقارنتها بنتائج استطلاعات سابقة، حيث ارتفعت من 76% في عام 2022 إلى 92% مع الحرب الإسرائيلية على غزّة، وارتفعت النسبة بشكل ملحوظ في بعض البلدان، ففي السعودية ارتفعت من 69% إلى 95%، وفي المغرب ارتفعت من 59% في عام 2022 إلى 95%، وفي مصر من 75% إلى 94%، وكذلك الأمر في معظم البلدان العربية الأخرى.

طالب 14% من المستجيبين للاستطلاع حكومات بلادهم بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة من دون موافقة إسرائيل

إن كان من غير الممكن في هذه العجالة استعراض جميع الأرقام والمؤشّرات التي وردت في الاستطلاع، إلا أن من المهم الوقوف على بعض المؤشّرات الهامة، والمعبّرة، التي تعكس فهم الشارع العربي ما يجري ومطالبه، خصوصا في ما يخصّ الانقسام الحاصل بين المواقف الرسمية والرأي العام تجاه ما يمكن أن تقوم به الأنظمة العربية من أجل إيقاف الحرب، فالمستطلعون لم يطالبوها بحشد الجيوش والتدخل عسكرياً، بل اعتبر 36% منهم أن الإجراء الأهم الذي يمكن أن تتّخذه حكومات بلادهم قطع علاقاتها مع إسرائيل، أو إلغاء عمليات التطبيع معها. إضافة إلى أن 89% من المستجيبين رفض أن تعترف حكومات بلدانهم بإسرائيل، مقابل 4% فقط يوافقون على ذلك. وفي هذا السياق، يمكن ملاحظة أن نسبة الذين يرفضون الاعتراف بإسرائيل ارتفعت من 84% في استطلاع أجري عام 2022 إلى 89% في هذا الاستطلاع، لكن المعبّر جداً أن هذا الرفض لم يأت على خلفية دينية أو عرقية أو ثقافية، بل أرجع رافضو الاعتراف بإسرائيل معارضتهم إلى جملة من العوامل والأسباب السياسية الموضوعية، التي يعود معظمها إلى الطبيعة الاستعمارية والعنصرية والتوسعية لدولة الاحتلال، ما يعني أن الرأي العام في غالبية البلدان العربية يرى في إسرائيل المصدر الأكثر تهديداً لاستقرار المنطقة وأمنها، ولن يعترف بها ما دامت دولة استعمارية استيطانية توسّعية، لا تعترف بحقوق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره وبناء دولته المستقلة. وبالتالي، من الصعب عقد اتفاقيات سلام معها. ويلتقي هذا الرفض الواسع للاعتراف بإسرائيل مع حقيقة أن إسرائيل، وخصوصا قوى اليمين المتطرّف فيها، هي من رفضت (وما تزال) العيش بسلام مع الشعب الفلسطيني والجوار العربي. وكان اغتيال رئيس الوزراء الأسبق، إسحاق رابين، على يد أحد متطرّفيها، الدلالة الأكثر تعبيراً عن رفض قطاعاتٍ واسعةٍ في المجتمع الإسرائيلي مسار السلام الذي بدأ مع اتفاقيات أوسلو، وعن جنوح إسرائيل نحو التطرّف والتمييز العنصري، ووصول قوى وشخصيات لا تؤمن إلا بإبادة وتهجير الفلسطينيين إلى سدّة الحكم فيها.

اللافت أيضاً أنه مقابل عدم الرغبة في انخراط الدول العربية في الحرب، طالب 14% من المستجيبين للاستطلاع حكومات بلادهم بإدخال المساعدات الإنسانية إلى قطاع غزّة من دون موافقة إسرائيل، فيما لوحظ أن غالبّيتهم لم تطالب الدول النفطية العربية باستخدام النفط كسلاح ضاغط من أجل وقف الحرب، إذ طالب فقط 11% منهم بهذا، من أجل الضغط على إسرائيل ومؤيديها، فيما طالب 9% بضرورة إنشاء تحالف عالمي لمقاطعة إسرائيل، الأمر الذي يفيد بأن غالبية العرب باتوا غير مقتنعين بإمكانية استخدام النفط والغاز سلاحا لاعتباراتٍ عديدة.

5BB650EA-E08F-4F79-8739-D0B95F96F3E1
عمر كوش

كاتب وباحث سوري، من مؤلفاته "أقلمة المفاهيم: تحولات المفهوم في ارتحاله"، "الامبراطورية الجديدة: تغاير المفاهيم واختلاف الحقوق".