ما وراء حرائق الكنائس أخيراً في مصر
هناك حرائق كثيرة غامضة في تاريخ مصر، من أشهرها حريق القاهرة في يناير/كانون الثاني 1952، وحريق وزارة الداخلية والمجمع العلمي ومبني الحزب الوطني الديمقراطي في أثناء ثورة 25 يناير (2011)، وتوجّه أصابع الاتهام دائما إلى أطراف عدة، منها الحكومي وغير الحكومي. ودائما يتهم الماسّ الكهربائي بأنه السبب الرئيسي لحرائق كثيرة، حتى لو كان ستارا للتغطية على اختلاسات أو سرقة أوراق رسمية.
طُرحت، أخيرا، علامات استفهام بشأن أسباب حرائق في بعض الكنائس المصرية، وخلفيات تلك الحوادث المتوالية، والتي بدأت بحريق كنيسة أبو سيفين في حي إمبابة الشعبي في القاهرة، وأودى بحياة 41 شخصا، وأصيب عشرات، ثم تلته حرائق في كنائس في المنيا الجديدة والمعصرة ودير السيدة العذراء مريم في أسيوط. وقد أثارت هذه الحرائق موجة من الشكوك في وسائل التواصل الاجتماعي، من قبيل ما كتبه رجل الأعمال نجيب ساويرس، في تغريدة له "إننا في الصعيد لا نتقبل العزاء إلا بعد معرفة الفاعل"!
ولكن موقع كنيسة أبي سيفين بين مبان سكنية كان مثيرا للدهشة، وهي مقامة من عدة أدوار في منطقة تتّصف بضيق شوارعها، ولم تكن أدراج (سلالم) البناء ومخارجه كافية لهروب نحو 500 شخصٍ كانوا يؤدّون شعائر قداس الأحد وأطفال في دار حضانة، حينما وقع ذلك الماسّ الكهربائي. وهناك شكاوى كثيرة من المسيحيين، خصوصا في صعيد مصر من احتجاجات بعض المسلمين عند بناء كنائس جديدة، وهو ما يؤدّي إلى صعوبة اختيار أماكن مناسبة لبناء هذه الكنائس، خصوصا أن أغلبها بني بدون ترخيص حكومي، بسبب صعوبة الحصول عليه أو الخوف من اعتراض الأهالي على بناء الكنائس.
كنيسة أبو سيفين ضمن كنائس أخرى بنيت من دون ترخيص على مدى عقود، وجرى تقنين وضعها، مع نحو ألفي كنيسة أخرى
وبسبب الصعوبات المتعدّدة لبناء الكنائس، ووفقا لمعلومات متوفرة، كان التحايل يتم على صعوبات البناء؛ بتخصيص مجموعة من المسيحيين منازلهم أو شراء منزل ثم هدم حوائطه الداخلية، وتخطيطه ليلائم ممارسة الشعائر الدينية. وأحيانا، يكون المنزل ورشةً أو مصنعًا صغيرًا، ثم يجرى إعداده ليتحوّل إلى مكان عبادة. وأنشئت هذه الكنائس وفقا لسياسة الأمر الواقع، وهي تتّصف بتهالكها وبأنها غير معدّة لاستقبال المصلين بشكل منتظم. بعد ذلك، تُنظَّم الشعائر الدينية بشكل غير منتظم، وعندما تعلم أجهزة الأمن بالأمر، إما أن تغلق المكان، خصوصا إن كان هناك تذمّر من السكان المسلمين، أو يتحوّل المبنى إلى كنيسة وتوضع عليه حراسة. وهكذا نشأت نسبة كبيرة من الكنائس خلال العقود الأخيرة.
وتعد كنيسة أبو سيفين ضمن كنائس أخرى بنيت من دون ترخيص على مدى عقود، وجرى تقنين وضعها، مع نحو ألفي كنيسة أخرى، منذ صدور قانون بناء الكنائس وترميمها 80 لسنة 2016، لكن بعضهم يشكو من عدم تطبيق شروط السلامة بصرامة.
ويطرح ما حدث أسئلة عدة، أهمها: أين نصيب الاحتياطات الرسمية المتعلقة بالأمن والسلامة في أماكن العبادة والمباني الملحقة بها ومتابعة تطبيقها من وقت إلى آخر، ومنها إلزامية وجود طفايات الحريق، وسماح المكان بإخلاء الأشخاص في حال حدوث كوارث من هذا النوع، والتدريبات التي ينبغي أن تجري على ذلك، وهذه مسؤولية تقع متابعتها على الأجهزة المحلية. كما لم تشر تقارير حكومية إلى أي تقصير يخصّ تأخر الحماية المدنية، وهي شكوى متكرّرة دائما في هذا النوع من الحرائق. ومن أهم شروط السلامة أن تتضمّن نظاما تلقائيا لمكافحة الحرائق، والتأكّد من قوة وصلات التيار الكهربائي، ووجود مصدر مياه مخصّص للحرائق.
ـ أثار هذا الحريق مرة أخرى الجدل بشأن اشتراطات بناء (وترميم) الكنائس التي تضمّنها القانون، والتي تعطي صلاحية للمحافظ المختص في تلقى طلبات ممثل الطائفة بطلبٍ للحصول على الموافقات المتطلبة قانونا للقيام بأيٍّ من الأعمال المطلوب ترخيصها، والتي تشمل بناء (وترميم) الكنائس وملحقاتها وفقا للقانون، والتي تشمل أعمال بناء أو توسيع أو تعلية أو تعديل أو تدعيم أو ترميم أو هدم أو تشطيبات خارجية في الكنيسة أو ملحقاتها. وهذا يعني مسؤولية المحافظ عن أدق أعمال الترميم حتى لو كان محدودا، ويجب أن يكون طلب البناء أو الترميم مرفقا بمستندات ملكية البناء وبيان طبيعة الأعمال المطلوبة وموقعها وحدودها، وإلا لا تُقبل هذه الطلبات، ويعطي القانون مدة أربعة أشهر للمحافظ في الرد على هذه الطلبات، وهي مدة كبيرة، قد يكون من الصعب فيها الانتظار لترميم البناء أو إصلاحه. وكان رئيس الجمهورية قبل ذلك هو من يختص بهذه الأعمال، تطبيقا لشروط الخط الهمايوني الصادر سنة 1856.
للإدارة مسؤوليتها في التأكّد من السلامة الإنشائية وشروط السلامة الخاصة بالتوصيلات الكهربائية
وتطلّب القانون للقيام بهذه الأعمال الحصول على ترخيص آخر من الجهة الإدارية المختصّة بشؤون التخطيط والتنظيم. وتلزم قرارات توفيق الأوضاع التي صدرت من مجلس الوزراء للكنائس وملحقاتها الطائفة المختصّة باستكمال اشتراطات الحماية المدنية للكنائس والمباني الملحقة بها الصادر بها تلك القرارات. وقد جاء هذا القانون معاكسا لمطالب كثيرين بعد ثورة يناير بإصدار قانون ينظم بناء دور العبادة بشكل عام، لا تخصيصها لطائفة معينة. وانتَقد وصف الطائفة الدينية المذكور في القانون باحثون عديدون، فالدولة الحديثة تقوم على المواطنة، وكان الأدعى استخدام تعبيرٍ يتفق ودولة المواطنة. وهناك نقد آخر يشير إلى استمرار شروط وكيل وزارة الداخلية عام 1934، العزبي باشا، ضمن نصوص القانون، بالنظر إلى عدد المسيحيين في المنطقة، ومراعاة تناسب مساحة الكنيسة المطلوب بناؤها وموقعها مع عدد مواطني الطائفة في المنطقة وحاجتهم، مع مراعاة معدل النمو السكاني، وهو ما يتناقض مع أحكام قضائية سابقة ألغت قرارا لوزير الداخلية برفض الترخيص بإنشاء كنيسة على أساس قلة عدد أفراد الطائفة في فبراير/ شباط 1951. ويصعّب الأمر عدم صدور لائحة تنفيذية للقانون، والتي يمكن أن تؤدّي إلى تسهيل الإجراءات المنصوص عليها في هذا القانون.
الحق في حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية حق دستوري في مصر بالأساس، ولذلك يجب إعادة النظر في هذا القانون، بإجراء تعديل جذري يتلافى السلبيات والانتقادات السابقة، ويقلّل من المدة المذكورة في القانون للرد على طلبات البناء والهدم الكلي، ويستبعد أعمال الترميم والتعديل الداخلي أو الخارجي من استلزام موافقة المحافظ عليها. أو أي جهة إدارية أخرى، فهذه الأعمال بسيطة ولا تحتاج إلى هذه التعقيدات الإدارية، ويكفي أن تقوم الإدارة بمسؤوليتها في التأكد من السلامة الإنشائية وشروط السلامة الخاصة بالتوصيلات الكهربائية.