ما وراء الإساءة إلى الرسول في الهند
اضطرّ حزب بهاراتيا جاناتا، القومي الهندوسي (الحاكم) في الهند، إلى إصدار بيان تنصّل فيه من تصريحاتٍ مسيئة للنبي محمد (ص)، أطلقتها المتحدّثة باسم الحزب نوبور شارما، ومن تغريدة نشرها المسؤول الإعلامي في الحزب نافين كومار جيندال، وطرد الأخير من الحزب وعلّق مهام شارما، وذلك في إطار سعي الحزب إلى احتواء موجة الاستنكار والغضب في داخل الهند وخارجها، وخصوصا في دول العالم الإسلامي. ولم تتخذ السلطات الهندية أي إجراءات قانونية ملموسة بحق هذين المسؤوليْن، على الرغم من أن القانون الهندي يعدّ الإساءة للرموز الدينية جريمة يُعاقب مرتكبها، وتدخل ضمن بند المسّ بالوئامين الديني والطائفي، الأمر الذي يترك الباب مفتوحاً أمام إمكانية استكمال بعض المتعصّبين والمتطرّفين الهندوس مسلسل توجيه إساءات جديدة إلى الإسلام والمسلمين في الهند، وهو ما فعله القيادي في الحزب الحاكم في مدينة كانبور هارشيت سريفاستافا، حين سار في النهج نفسه، ونشر تعليقاتٍ معاديةٍ للمسلمين على وسائل التواصل الاجتماعي، بالرغم من موجات الغضب والتوترات التي أحدثتها تصريحات المسؤولين السابقين.
وتكمن حيثيات عديدة وراء التصريحات المسيئة للإسلام والمسلمين، وخصوصا أنها تزامنت مع ارتفاع حدّة الاستقطابين الديني والطائفي، العميقين اللذين تشهدهما الهند منذ عقود عديدة، وتصاعدت وتيرتهما خلال السنوات الأخيرة، التي اتسمت بالعمل على تسييس الديانة الهندوسية، أو بالأحرى توظيفها سياسياً من المتشددين من القوميين، الأمر الذي أفضى إلى تنامي خطاب الكراهية وزيادة وتيرة الهجمات ضد المسلمين بشكل حادّ، خصوصا منذ وصول حزب بهاراتيا جاناتا إلى السلطة في عام 2014. وبالتالي، ليست صحيحةً ادعاءات بعض المسؤولين الهنود أن من أطلق التصريحات المسيئة هم "شخصيات هامشية"، بل هم مسؤولون كبار في الحزب، ويمثلون أطروحاته ووجهة نظره الرسمية.
دعا قادة متطرّفون ورهبان هندوس إلى قتل المسلمين علناً، وتطبيق نموذج الروهينغا في إبادتهم جماعياً، أو إخضاعهم وإجبارهم على اعتناق الهندوسية
ويشي واقع الحال بأن حكومة حزب بهاراتيا جاناتا لم تقدّم أي برنامج لتسوية الخلافات ومحو التناقضات القائمة على الهوية والدين، بل همّشت معظم الأقليات، وخصوصا المسلمين، وبات أبناء الأقليات، مثلاً في ولاية غوجارات، يجدون صعوبات جمّة من أجل الحصول على فرص العمل، وحرموا من الامتيازات الأخرى التي تتمتع بها الأغلبية الهندوسية، كما أن هذه الحكومة لم تقدّم حلولاً جدّية لحل الإشكالات والتوترات الطائفية والدينية، لأن خطابها مبني على رؤيةٍ عقائديةٍ لدولة هندوسية، وتعمل على تحقيقها من خلال سياسات معادية للأقليات، وخصوصاً المسلمين والمسيحيين. وبالتالي، لن تحلّ التوترات والإشكاليات بخطواتٍ لاحتواء ارتدادات التصريحات المسيئة في العالم الإسلامي، بل يجب حلّها في الداخل الهندي عبر وضع مواثيق وأطر قانونية تمنع كراهية الآخر، المختلف دينياً أو إثنياً أو ثقافياً، وتؤسّس للمواطنة المتساوية وللشراكة المجتمعية، واعتماد سياسات وممارسات وتشريعات تنهي ظاهرة تنامي العنفين الديني والطائفي، وخصوصا أن هذا النوع من العنف ليس ظاهرة حديثة في الهند، بل يضرب عميقاً في النسيجين الاجتماعي والسياسي فيها، ثم أخذ ينمو ويتزايد طردياً مع تنامي حالة التجييش والتحشيد التي يقوم بها أعضاء الحزب الهندوسي القومي (الحاكم) وأنصاره، وهو حزبٌ يقوده رئيس الوزراء ناريندرا مودي، الذي يطلق عليه متطرّفو الهندوس لقب "إمبراطور قلوب الهندوس".
واعتمد مودي في وصوله إلى الحكم على خطاب قومي شعبوي، كاره للأقليات، ثم أطلق بعد وصوله إلى الحكم، مباشرة، العنان للمتطرّفين والمتعصبين من غلاة الهندوس للقيام بحملات اضطهاد المسلمين والتضييق عليهم باتباع شتى الطرق، وذلك على الرغم من أن الدستور الهندي يحمي المعتقدات والحريات الدينية، وتجسّد ذلك في عمليات قتل مئات المسلمين واعتداءات كثيرة عليهم، إلى جانب إزالة أسماء إسلامية لبعض المدن والقرى والشوارع، ووضع أسماء هندوسية عوضاً عنها. كما قامت سلطات بعض الولايات بتغيير الكتب المدرسية، وإزالة أي مواد تشيد بالمسلمين وإدخال مواد مهينة لهم.
وساهمت وسائل إعلام هندية، ووسائل التواصل الاجتماعي، في اشتداد الحملة على المسلمين خلال الأعوام الماضية، إذ دعا قادة متطرّفون ورهبان هندوس إلى قتل المسلمين علناً، وتطبيق نموذج الروهينغا في إبادتهم جماعياً، أو إخضاعهم وإجبارهم على اعتناق الهندوسية، وذلك ضمن برنامج قديم كان يسمّى "التطهير"، ويحمل راهناً شعار "العودة إلى البيت".
حمل الخطاب الشعبوي الهندوسي إلى السلطة فيها متطرّفين هندوساً ساهموا في انفلات ثقافة التعصّب والكراهية والعنف بين الأديان والطوائف والإثنيات
وبات ملايين القوميين الهندوس يعتقدون أن تصفية المسلمين سوف تحسّن من أوضاعهم المعيشية، في حين أن ساستهم المتطرّفين راحوا يطرحون في العلن مشروعاً واسعاً للتطهير العرقي، ونفّذوه في مناطق وجود المسلمين في الهند، وذلك تطبيقاً لنهج "الهندوتفا" الأيديولوجي التي تحوّلت إلى عقيدة للحركة القومية الهندوسية، وتنهض على وضع المسلمين والمسيحيين، وسواهم من الأقليات، أمام خيار التحوّل إلى هندوس أو الموت، الأمر الذي يذكّر بسياسات حكومات اليمين المتطرّف والعنصري في الدولة العبرية.
وشهدت مدن الهند وبلداتها انتشار ظاهرة مجموعات من الهندوس الذين يضعون على رؤوسهم أغطية زعفرانية اللون، ويطلقون مكبرات صوت تبشّر بنهوض الهندوس، و"انتصار الرب رام"، الذي ستكون عاقبته "ركوع أصاحب القلنسوة". والأخطر زيادة وتيرة انتشار مواكب منظمة "راشتريا سوايامسيفاك سانغ" المعروفة اختصاراً بـ"آر إس إس" شبه العسكرية، التي تشكّل مليشيات مسلحة تنادي بتفوق الهندوس على سواهم، وتعمل على تحويل الهند إلى راشترا هندوسية، أو دولة هندوسية. وعادة ما يجوب عناصرها المدن والبلدات الهندية، حاملين العصي والسكاكين والبنادق في استعراضاتٍ شبه عسكرية، وتقدّر تقارير عددهم بحوالي ستة ملايين عنصر، وترفع شعار الدفاع عن الهوية الهندوسية الذي تتخذه ذريعة لاضطهاد مسلمي الهند وسواهم.
وفيما تفتخر الهند كثيراً بتنوعها وتعدّديتها، وأنها دولة علمانية وديمقراطية، لكن الخطاب القومي الشعبوي الهندوسي حمل إلى السلطة فيها مجموعة متطرّفين هندوس يعتنقون عقيدة الهندوتفا، وساهموا في انفلات ثقافة التعصّب والكراهية والعنف بين الأديان والطوائف والإثنيات. وعلى الرغم من أن الأمر يخضع للتوظيف السياسي، ويعود إلى أسباب اقتصادية واجتماعية وثقافية معقّدة، إلا أنه يزيد من حدّة الانقسام والاستقطاب في البلاد، ويزيد من أزمة الدولة عمقاً، فضلاً عن أنه يفضي إلى ارتكاب المجازر والجرائم بحق الآخرين من الأقليات.