ما بعد فشل الانتخابات الليبية
كان متوقّعاً، بل هو أمر لازم، بناء على معطيات الأزمة في ليبيا، عدم إجراء الانتخابات في موعدها المقرّر لها، 24 ديسمبر/ كانون الأول الحالي. وبالتالي، لا غرابة في ما حدث لكل متابع للشأن الليبي، غير أن الذي لا يُستساغ عقلاً وعرفاً هو عدم توضيح ما حدث، والإجراءات المصاحبة لهذا التأجيل من جهة مسؤولة وشرعية، لا تنفيذية كما حدث، حيث كان إعلان التأجيل في مجرّد بيانٍ أصدرته المفوضية العليا للانتخابات قبيل اليوم المحدّد له، متضمنا هذا البيان، أيضا، موعدا جديدا مقترحا لهذه الانتخابات، الأمر الذي يضع المجتمع الليبي أمام حالةٍ من عدم الوثوق في كل الأجسام متصدّرة المشهد السياسي، وحتى الإجرائي التنفيذي في البلاد، غير أن من المفيد اليوم الوقوف على ما حدث لاستخلاص الفائدة منه أولاً، ومحاولة لفهم الواقع الحالي والمآلات التي يمكن أن تكون وتسير عليها البلاد في المستقبل:
أولاً: حاول بعضهم، بمن فيهم أعضاء من البرلمان، السير بقرار "انفرادي" في القوانين الانتخابية لإجراء هذه الانتخابات، وفق آلية محدّدة لا تتعدّاها؛ بل تعدّى الأمر أكثر من ذلك، في محاولة لفرضه بالأمر الواقع، وإن حاول كثيرون، بينهم أعضاء من البرلمان نفسه، أيضاً، العمل على اصلاح هذا الخلل القانوني والدستوري بما يجعله مقبولاً، غير أن ذلك لم يكن.
ثمّة أضداد بين الأجسام التشريعية في البلاد، ليس في القاعدة الدستورية نفسها فحسب، بل حتى في الإجراءات التنفيذية والآليات التي يجب أن تكون عليها البلاد في العملية السياسية المقبلة
ثانياً: كما أن المجلس الأعلى للدولة أصدر هو الآخر قانوناً انتخابياً موازياً لما أصدره أعضاء من البرلمان، في محاولةٍ منه لإيجاد توازنٍ في هذا الشأن، وكذلك حثّ البعثة الأممية للدعم في ليبيا على العمل بالتواؤم والتوافق بين البرلمان والمجلس، وصولاً إلى قانون انتخابي يتفق عليه الجسمان، الأمر الذي يحقق شيئا من القبول والتوافق، أو حتى درجةً أدنى من التوافق، وبالتالي تكون الانتخابات.
ثالثاً: ثمّة أضداد أخرى بين الأجسام التشريعية في البلاد، ليس في بنود (ومواد) القاعدة الدستورية نفسها فحسب، بل حتى في الإجراءات التنفيذية والآليات التي يجب أن تكون عليها البلاد في العملية السياسية المقبلة، سواء من ناحية النظام البرلماني أو الرئاسي، أو حتى إجراء الانتخابات الرئاسية أو العدول عنها إلى البرلمانية فقط، باعتبار أن هناك فريقا لا بأس به يُقدّم إجراء الاستفتاء على الدستور قبل إجراء هذه الانتخابات، وخصوصا الرئاسية منها، باعتبار أن هيئة صياغة الدستور تعمل، منذ سنوات، من دون إجراء استفتاء على الدستور الذي أنتجته، والذي يُفترض أن يكون من أولويات أعمال المؤتمر الوطني العام في 2012، ناهيك عن تأخره إلى هذا الوقت.
هيئة صياغة الدستور تعمل، منذ سنوات، من دون إجراء استفتاء على الدستور الذي أنتجته
رابعاً: الإجراء التنفيذي لا بد أن يكون حيادياً، وأن يبتعد عن التجاذبات السياسية، بما يساعد على تعزيز التوافق وليس العكس، وكذلك بما يتيح الرضى الشعبي والنخبوي، ناهيك عن الأجسام السياسية المختلفة في البلاد، باعتبار أن ذلك سيكون سببا في قبول النتائج من عدمها، كما أن الوعي الشعبي والتحرّكات المصاحبة التي كانت عقب ترشّح أسماء جدلية لن يكون بالسهولة بمكان معها تمرير أي مشروعٍ يحمل أجنداتٍ مصلحية تدفع باتجاه معين ولا تتعدّاه.
تعد هذه أهم المشكلات الحقيقية التي كانت سببا في إلغاء الانتخابات في موعدها المحدّد لها. وبالتالي، بات من الضروري اليوم العمل على إصلاح ما سبق، سواء من الناحية الدستورية القانونية أو حتى التوافقية، بما يساعد على التأسيس لمرحلةٍ يمكن أن تنقُل الدولة إلى أجسام شرعية جديدة، منبعها القاعدة الشعبية، وليس الحوارات الأممية.
وفي المقابل، أيضا، بات من الضروري اليوم كذلك العمل على إجراء الاستفتاء على الدستور، بعد مرور عشرة أعوام من عمر الثورة، بل وأن يكون هو الأساس الصحيح في بناء الدولة بعيداً عن "التوافق" الجزئي الذي قد ينتج نظاماً أو حتى استقراراً في مرحلةٍ ما، ولكنه حتما سيكون غير صالح لمرحلةٍ أخرى عند حدوث أي عثرة سياسية، أو حتى استغلال هذا التوافق "غير الحقيقي" في استقطاب سياسي مصلحي، يفسد أكثر مما يصلح على المدى البعيد للدولة.