ما بعد التسريبات .. ما قبل يناير
كم مرّة قرأت عبارةً من نوعية أن أجنحة النظام تتصارع، أو أن النظام يأكل بعضه بعضًا، أو أنه في طريقه إلى الانهيار ذاتيًا مع اصطكاك تروس السلطة ببعضها؟ كم مرة طالعت أحكامًا قاطعة أن هذا النظام سوف يسقط نفسه بنفسه، على مدار السنوات الماضية؟
قبل يناير من كل عام، تنشط سوق التسريبات القادمة من الغرف المظلمة في نظام عبد الفتاح السيسي، كلها تتحدّث عن فسادٍ بات معلومًا، بالضرورة، من واقع حياة المصرية، منذ صارت مصر محكومةً بشركةٍ قابضة، عسكريةٍ بالأساس، تدير الوطن بوصفه سوقًا.
هذا الفساد يلمسه المواطن بيديه، قبل أن يقرأه بعينيه في التقارير الدولية، والمحلية، وخصوصًا تلك الأخيرة، حيث يقبع رئيس الجهاز المسؤول عن رصد الفساد في البلاد ومكافحته، المستشار هشام جنينة، بالسجن، على إثر حديثه عن أرقام ووقائع مفزعة في سجل الفساد في مصر.
دوليًا، يؤكّد أحدث تقرير أن مصر تراجعت إلى المركز 117 بين 180 دولة في مؤشّر مدركات الفساد العالمي لعام 2020، الذي تُصدره منظمة الشفافية الدولية، بعد أن كانت في المركز 106 عام 2019، والمركز 105 عام 2018.. أي أن العام الماضي شهد تصاعدًا في حجم الفساد عن العامين السابقين عليه.
على ضوء ما سبق، تُصبح التسريبات الخاصة بالفساد، التي أذيعت أخيرا، مثل التسريبات التي أطلّ بها المقاول الممثل على الجمهور قبل ثلاثة أعوام، نوعًا من محاولة تأكيد المؤكّد وإثبات الثابت، لتُضاف إلى محاولاتٍ أخرى تثير صخبًا، استباقًا لذكرى الخامس والعشرين من يناير من كل عام.
تعتمد هذه المحاولات على ما توفره السلطة من تسريبات، ثم تكذّبها، وتبدو بعدها أكثر شراسةً وتوحشًا ضد ناشريها والمتفاعلين معها، بعد أن تشنّ هجمةً مرتدّة، تستعمل فيها كل خطوطها وأسلحتها الإعلامية والبرلمانية، وبالطبع الأمنية، فتكون الحصيلة ضحايا جدد للقبضة الأمنية، يُزجّون في السجون، لينضموا إلى عشرات الآلاف غيرهم .. ثم يرفع الستار عن شعارات ضخمة عن الزعيم الذي لا يسكت على الفساد، ويعقد له المؤتمرات في شرم الشيخ، ويحاربه كما يحارب الإرهاب، فتنطلق جوقة المنشدين والعازفين في وصلاتٍ لا تنقطع عن"الجنرال الصالح".
قلت سابقًا، ومنذ سنوات، إنّ المرحلة برمتها ما كان لها أن تتأسّس، لولا أفضال الفساد عليها، أو قل إنّ "30 يونيو" نفسها كانت بمثابة "ثورة رد الاعتبار للفساد". وفي ذلك إنّ تمويلات تمرّد فساد، وتسريبات الأرز فساد أكبر، وتزييف مقر اعتقال الرئيس محمد مرسي، ثم قتله بالبطيء كان عين الفساد، والتدخل، حسب التسريبات، من المؤسسة العسكرية في قضية سيارة ترحيلات معتقلي أبو زعبل، وقبلها تزوير ترجمة إجابات كاترين آشتون، في مؤتمرها الصحافي الشهير مع نائب رئيس الانقلاب في ذلك الوقت، محمد البرادعي، وتزوير تقرير "العفو الدولية" عن معتصمي ميدان رابعة العدوية، بواسطة أول وزير خارجية لدولة 30 يونيو، نبيل فهمي، والتزوير والتحريف والتشويه والتوظيف للنصوص الدينية والفتاوى والأحكام الشرعية، لصالح عبد الفتاح السيسي، وإرضاءً لشبقه للعب دور الزعيم الديني المصلح المجدد.. ويمكنك أن تضيف الآن أن سجن رجال الأعمال المشهود لهم بالنزاهة، صفوان ثابت نموذجًا، والسطو على أموالهم وشركاتهم، هو فساد كبير، كما أن حبس الذين اشتهروا بمحاربة الفساد على مر العصور، المهندس يحيى حسن عبد الهادي مثلًا، من دون محاكمة هو كذلك عين الفساد، كما يكفيك أن تنظر إلى من يحاولون إقناعك بأنه لا يوجد فساد في مصر، من رجال أعمال، هم أبناءٌ بررة للفساد، لتدرك أن الفساد عنوان المرحلة.
إذن، يدرك المواطن، بالبداهة وبالدليل، اليوم أن الفساد حالة متحقّقة في كل المجالات، بصورة شديدة الوضوح والنقاء، حتى كاد لا يتخيّل حياته من دون هذا الفساد الذي بات متعايشًا ومتكيفًا معه. وبالتالي أزعم إنه ليس في حاجة إلى مزيد من الشواهد على الفساد، بقدر ما يحتاج من يقنعه بأن حياته من دون هذا الفساد ممكنة، وأنها يمكن أن تكون أفضل، وأن بالإمكان مقاومته والانتصار عليه.
يحتاج المواطن ممن يحدثه عن الفساد أن يقنعه بأنه يستطيع أن يكون بديلًا أفضل، يقدر على إدارة المجتمع، على نحو يحقق قدرًا أكبر من العدل والمساواة، وقبل ذلك الأمان بمفهومه الشامل، اجتماعيًا واقتصاديًا.