ما الغاية من اغتيال لقمان سليم؟
تندرج عملية اغتيال الناشط اللبناني، لقمان سليم، ضمن سلسلة الجرائم السياسية التي ترتكب في الصراع السياسي والاجتماعي الدائر في لبنان منذ سنوات عديدة، وتُبرز الوجه المتمادي للقوى التي تقف وراء الجريمة، وسعيها إلى تعنيف الصراع، ونقله إلى مرحلة التصفية الجسدية، إذ لا يقرّ من قام بهذه الجريمة السياسية بالحوار ولا بالاختلاف، وغايته الوحيدة إلغاء وجود الآخر المختلف، وطمس شخصيته والقضاء عليه، ولا يعير أي اهتمام لتبعات جريمته ونتائجها وإرهاصاتها، لأن هناك قوى سياسة، أو بالأحرى عصابات، فاعلة تحميه وتمكّنه من الإفلات من العقاب عليها.
وعُرف لقمان سليم بوصفه ناشطاً مدنياً وسياسياً، لا يملك سوى الكلمة والرأي الحر والقول السياسي حيال ما يجري في بلده، حيث لم يتردّد في الإسهام بفاعليةٍ في الحراك الاحتجاجي اللبناني ضد نظام المحاصصة الطائفية الجاثم على صدور اللبنانيين، وضد القوى التي تعمل على إلحاق بلده بأجندات أنظمة دولٍ إقليمية. وكانت الجرأة عنواناً لمواقفه ضد القوى المهيمنة التي أوصلت لبنان إلى مصافّ الدول الفاشلة، نتيجة ممارساتها وارتهاناتها. لذلك لم يتوانَ عن تحميلها مسؤولية الوضع الكارثي في لبنان، ووجّه أصابع الاتهام نحوها علانية في ساحات "ثورة 17 تشرين". وفي إطلالاته على المنابر الإعلامية ونشاطاته البحثية، تلك القوى التي تهيمن على نظام المحاصصة، والمتمثلة بحزب الله والتيار العوني وسواهما، ومعهما النظامان، الإيراني والسوري، وقد حمّل الأخير مسؤولية الوقوف وراء نترات الأمونيوم التي أدّت إلى انفجار مرفأ بيروت.
أراد القاتل كتم صوت لقمان سليم باستخدام كاتم الصوت، ليس بهدف التستّر على جريمته، بل بوصفه أداة من أدوات الجريمة المحبّبة لديه
وتلقى سليم تهديداتٍ عديدة تتوعده بالقتل منذ نهاية عام 2019، لكنه بقي ثابتاً ولم يغير مواقفه، حتى حين كتبوا على جدران بيته "المجد لكاتم الصوت" و"خليك على إجر ونصّ وانطر.. جاييك الدور". لذلك، أراد القاتل كتم صوته باستخدام كاتم الصوت، ليس بهدف التستّر على جريمته، بل بوصفه أداة من أدوات الجريمة المحبّبة لديه، التي يتفنن باستخدامها بدءاً من الخناجر والسكاكين، وصولاً إلى عمليات التفجير بالسيارات المفخخة وكاتم الصوت وسواها.
وبالنظر إلى المكان الذي اغتيل فيه لقمان سليم، فإن الناشطين اللبنانيين حوّلوا المسؤولية إلى حزب الله، لأنها منطقة نفوذه الحصري، ولا سلطة للدولة اللبنانية عليها، واعتبرها بعضهم بمثابة "الرد الإيراني على مقتل قاسم سليماني، وعلى الغارات الإسرائيلية المتصاعدة على قواعد إيران وحزب الله في سورية"، لكنها من حيث التوقيت تأتي في ظل تعثر تشكيل الحكومة اللبنانية، لتشكل معطىً إضافياً، يسهم في صبّ زيت أكثر على نار التوتر والاحتقان بين الرئيس اللبناني ميشال عون ورئيس الوزراء المكلف سعد الحريري، بسبب مطالب حزب الرئيس وصهره بالثلث المعطّل، كذلك يمكن القول إنه ليس مصادفة أن جريمة الاغتيال نُفذت بعد وصول إدارة جو بايدن إلى البيت الأبيض.
وتتزامن جريمة الاغتيال التي أودت بحياة لقمان سليم مع مرور ستة أشهر على تفجير مرفأ بيروت الكارثي، الذي وعد الرئيس عون بالكشف عن ملابساته خلال أيام، في حين أنه لم يصدر أي مؤشر على ما حصل، وليس هناك أي تفسير لما حصل أو من سبّب الكارثة التي سبّبت مقتل أكثر من مائتي لبناني، وسقوط مئات من الجرحى، فضلاً عن دمار أحياء كاملة، وتشريد آلاف العائلات، وبالتالي إن لبنانيين كثراً يخشون من أن يفلت المجرم والجهات التي تقف وراء الجريمة من أي عقاب، ولا حتى من مجرّد تحميلها المسؤولية عنها، ذلك أن ما يهمّ قوى نظام المحاصصة الطائفية، مصالحها ومصالح أزلامها، ولا يهمها ما يحصل للبنان واللبنانيين من مصائب وكوارث، مثلها مثل نظامي الأسد والملالي الإيراني، إذ إن "العهد القوي" همّه محصور بالانتصار لصهر هذا العهد، جبران باسيل، مهما كان الثمن، وجعله خلفاً لساكن قصر بعبدا الحالي.
مثل هذه الجريمة ستُحدث مزيداً من المشكلات للجهة القائمة والمدبرة له، وتدفع لبنان إلى حال من التوتر والفوضى
وأياً تكن الغاية مع اغتيال لقمان سليم، إلا أن لدى بعض اللبنانيين تخوفاً من أن تشكل هذه الجريمة استمراراً لمسلسل الاغتيالات الذي أودى بشخصيات لبنانية عديدة خلال السنوات السابقة، لكن الخطير هو الاستسلام لمنطق الاغتيال السياسي، لأن اغتيال الخصوم السياسيين والمعارضين في أي بلدٍ كان، لا يحلّ مشكلة ولا يحقق لمن قاموا به تصفية الآخرين، بل إن مثل هذه الجريمة ستُحدث مزيداً من المشكلات للجهة القائمة والمدبرة له، وتدفع لبنان إلى حال من التوتر والفوضى، قد تصعب على الذين دبروها أن يضبطوا الأمور.
وفي الحالة اللبنانية، يمكن النظر إليها بوصفها مأساة تتناثر فصولها بين تجويع اللبنانيين والسطو على مدّخراتهم، مروراً بانفجار مرفأ بيروت، ووصولاً إلى اغتيال لقمان سليم، وجميعها لا تفترق عن مسألة الانتهاكات والجرائم بحق الناس، لكن الخطير في الأمر أن تتطاول قضية الاغتيال السياسي لتصبح ممارسة وسلوكاً، تهيئ له وتؤسس له فكرياً مدارس متخلفة ومتعددة الاتجاهات، مع تدني السياسة في بلداننا العربية إلى درجةٍ تصبح فيها جزءاً من عالم الجريمة المنظمة، تحت مختلف الشعارات والمسميات، وفي ظل أنظمة قمعية وطائفية تصادر كل شيء.
وتكشف جريمة اغتيال لقمان سليم أن الطرف الذي قام بها ودبّرها ونفذها عاجز عن التعايش مع المختلفين، وعن إقناع الآخرين بما يملك من وجهة نظر ومقولات، حيث يعتقد خاطئاً أن تغييب هذا الطرف المختلف انتصار لوجهة نظره ومقولاته، على الرغم من أنه لا يملك الأرضية التي يمكن أن يقف عليها لإقناع الآخرين، لكونه جامداً أو معقداً سياسياً وفكرياً، وغير قادر على التقدّم، ولو خطوة واحدة، نحو تحقيق ما يهدف إليه سلمياً. وبالتالي لن يتمكّن من تحقيق "النصر الإلهي" الذي كان يبغيه من عملية الاغتيال، لكن استمراره في نهج الجريمة السياسية يشير إلى انحطاط السياسة، وسقوط العقل، والانتصار للنعرات والتحزبات والانتماءات الضيقة والما قبل مدنية، وأنه يعيش في زمنٍ مشغول بإنتاج الفساد والخراب والهزائم والانكسارات، ويتمسّك فيه الحيّ بتلابيب الميت، ويعيث فيه فساداً الجلاوزة وصناع الجمود والركود ودعاة تأبيد أنظمة الحاضر.