ماكرون يربح الرئاسة ويخسر الحكم

22 يونيو 2022

ماكرون يغادر بهو الانتظار في قصر الإليزيه في باريس (21/6/2022/Getty)

+ الخط -

بعد أقلّ من شهرين على نجاحه في الانتخابات الرئاسية، فشل الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في الحصول على أغلبية برلمانية تمكّنه من الحكم وتطبيق برنامجه الانتخابي، فالتحالف الرئاسي "معا" الذي جمع حزب الرئيس وحليفيه، حزبي "الحركة الديمقراطية" و"آفاق"، لم يحصل إلا على 245 مقعداً، بعيداً كل البعد عن الأغلبية المطلقة المحدّدة في 289 مقعداً من أصل 577 في الجمعية الوطنية الفرنسية. وعلى الرغم من تصدّره نتائج الانتخابات التشريعية، إلا أن نتيجة التحالف الرئاسي أجمع كل المحللين السياسيين على اعتبارها فوزاً بطعم الهزيمة. وما زاد من الطين بلة والنتيجة قسوةً انهزام ثلاث وزيرات، ما سيضطرهن للاستقالة، علاوة على خسارة بعض رموز الماكرونية السياسية، مثل رئيس الجمعية الوطنية ريشارد فيران، ورئيس الكتلة البرلمانية للحزب الرئاسي وزير الداخلية السابق كريستوف كاستانر.

يذكر أنه منذ التعديل الدستوري لسنة 2000 الذي قلّص العهدة الرئاسية الفرنسية من سبع سنوات إلى خمس، وكان من نتائجه تقديم الانتخابات الرئاسية الفرنسية على الانتخابات التشريعية، أصبحت هذه بمثابة دورة ثالثة، ينحصر دورها في إعطاء الأغلبية البرلمانية اللازمة للرئيس المنتخب، لتمكينه من تنزيل برنامجه السياسي، وتفادي الوقوع في فخ التعايش السياسي الذي لا يسمح بذلك. وهكذا ومنذئذ، وكأنها إجراء شكلي إداري، أعطت كل الانتخابات التشريعية الأغلبية للرئيس المنتخب، بغض النظر عن قوة حزبه وترسّخه داخل المجتمع الفرنسي. وهذا ما حصل سنة 2017، حيث حاز حزب الرئيس ماكرون الأغلبية، بما قدره 351 مقعداً بمرشّحين مغمورين، اختيروا عبر الإنترنت، ولم يكن للعديد منهم أي حضور وازن، أو نضال سياسي، إذ اعتمد حزب ماكرون على وجوه عديدة في المجتمع المدني والمقاولين ورجال الأعمال، علاوة على عديدين في مجالاتٍ مختلفة. ولكن الواقع السياسي في فرنسا تغير كثيراً منذ خمس سنوات، حيث انهارت كل الأحزاب التقليدية التي حكمت فرنسا عقوداً، سواء من اليمين المحافظ أو من اليسار الاشتراكي، وساهمت سياسة الرئيس ماكرون في تصدّعها وانشقاقها لتحجيمها وتقزيمها، حيث استطاع كسر الحواجز الإيديولوجية بين الأحزاب. ولم تعد المواقف السياسية مبنيةً على الاتجاهات الإيديولوجية والفكرية. وهكذا رأينا كيف تبنّى ماكرون في ولايته السابقة مواقف يمينية متشدّدة، خصوصاً تجاه المهاجرين والمسلمين، وقانون الانفصالية الإسلامية أحد معالمه الواضحة.

استطاع ائتلاف اليسار إحياء اليسار الفرنسي، وإعطاءه المكانة الثانية داخل المشهد السياسي، وداخل الجمعية الوطنية الفرنسية

اتسمت سياسة ماكرون، مع قرب نهاية ولايته السابقة، بنوع من البراغماتية والواقعية المفرطة. وجعلته الرغبة في ولاية ثانية يتبّنى مواقف سياسية جديدة، إذا ظهرت شعبيتها لدى المواطن الفرنسي. ومع بروز اليمين المتطرّف وصعود شعبيته، وجد ماكرون ضالته، فقد وضع نفسه في موضع المنقذ من التطرّف اليميني العنصري، متهماً إياه بمحاولة تقسيم فرنسا وصناعة الفتنة بين أبنائها، مع محاولة سحب البساط منه بتبنّي قضايا رفعت من شأنه.

هي سياسة قديمة جديدة، فالرئيس الاشتراكي فرانسو ميتران، الذي حكم فرنسا 14 سنة، يقال إنه استطاع الحصول على أغلبيته البرلمانية آنذاك بتقوية اليمين المتطرّف، ومن ثمّة إضعاف اليمين المعتدل وتجزئة ناخبيه، ثم المناداة بما تسمى "الجبهة الجمهورية"، أي تحالف كل الأحزاب الفرنسية لقطع الطريق على "الجبهة الوطنية" المتطرّفة بزعامة لوبان الأب، ثم البنت، للوصول إلى البرلمان. ولكن قطع الطريق على "التجمع الوطني"، وريث الجبهة الوطنية، هذه المرّة، كان يعني إعطاء ائتلاف اليسار المسمّى "الاتحاد الشعبي الإيكولوجي والاجتماعي الجديد" 63 مقعداً، وهي نسبة الدوائر التي تأهل فيها إلى الدور الثاني تحالف اليسار في مواجهة اليمين المتطرّف، ما يعني المخاطرة بحصول ائتلاف اليسار على الأغلبية، وتمكين جان - لوك ميلانشون من الوصول إلى رئاسة الحكومة، خصوصاً أنه استطاع توحيد كل اليسار والخضر تحت يافطة واحدة، وهو ما فشل فيه في الانتخابات الرئاسية، ولولاه لبلغ الدور الثاني مقابل الرئيس ماكرون.

ومن هنا، يمكن أن نفهم نتائج الانتخابات التشريعية الفرنسية، والمفاجأة التي حقّقها اليمين المتطرّف، ففي وقتٍ كانت معاهد استطلاع الرأي لا تعطية أكثر من 40 مقعداً، حصل حزب التجمع الوطني على 89 مقعداً، وهذا يعني أنه ضاعف نتيجته سنة 2017 عشر مرات، وهي النسبة التي لم يكن يحلم بها، ولم يحصل عليها أبداً منذ تأسيس الجمهورية الخامسة، وجعلت منه القوة السياسية في البلاد وراء ائتلاف اليسار الذي لم يحصل إلا على 131 مقعداً، في الوقت التي كانت تعطيه معاهد استطلاع الرأي حوالي 180 مقعداً، لكنه استطاع إحياء اليسار الفرنسي، وإعطاءه المكانة الثانية داخل المشهد السياسي، وداخل الجمعية الوطنية الفرنسية.

انهارت الأحزاب التقليدية التي حكمت فرنسا عقوداً، من اليمين المحافظ ومن اليسار الاشتراكي، وساهمت سياسة ماكرون في تصدّعها

أما "حزب الجمهوريون"؛ ممثل اليمين التقليدي، فكما كان متوقعاً، انهار وفقد نصف مقاعده، وبعدما كان يمثل الكتلة الثانية في الجمعية الوطنية، أصبح يحتلّ المركز الرابع، لكنه لا يزال يتحكم في مجلس الشيوخ، أي الغرفة الثانية للبرلمان، ذات الصلاحيات المحدودة، ثم يمكن أن يقول إنه ليس من صالحه الانضمام إلى الأغلبية، لأنه سيذوب فيها، وعليه تجديد هياكله وإبراز زعامات جديدة، فهو يشكل البديل الأمثل في الانتخابات المقبلة لحكم فرنسا، في ظل مشهد سياسي عام يميل إلى اليمين، لا سيما أن الدستور الفرنسي لا يسمح لماكرون بالترشّح مرة ثالثة.

أما المفاجأة المتوقعة فهي عدم حصول التحالف الرئاسي على الأغلبية المطلقة، واكتفاؤه بـ244 مقعداً، وهذا يعني أن الحكومة الفرنسية المعينة هي حكومة أقلية، ويمكن أن يسقطها معارضوها، خصوصاً مع رفض حزب "الجمهوريون" اليميني التقليدي الانضمام إلى الأغلبية. بصيغة أخرى، يمكن القول إنها حكومة قابلة للابتزاز. وبالتالي، وستُفرض عليها تنازلات من اليمين واليسار، وهذا يعني أن الرئيس ماكرون لن يستطيع تطبيق برنامجه الانتخابي السياسي الذي طرحه أمام الفرنسيين في الانتخابات الرئاسية، وستكون حكومته مضطرّة للقيام بتحالفات انتهازية حسب المشاريع التي ستُطرح أمام الجمعية الوطنية، للحصول على الأغلبية المطلوبة لتمرير القوانين، تارّة مع اليسار واليمين المتطرّف في المشاريع المتعلقة بتقوية القدرة الشرائية مثلاً، وتارّة أخرى مع اليمين، بشقّيه في كل ما يتعلق بالقضايا ذات الطابع الأمني أو المتعلقة بالهجرة، وهكذا دواليك.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط