عطّال من منع العباية إلى رئاسة الوزراء

عطّال من منع العباية إلى رئاسة الوزراء

15 يناير 2024

غابريال عطّال في باريس بعد تكليفه برئاسة الوزراء (9/1/2024/Getty)

+ الخط -

عيّن الرئيس الفرنسي، ماكرون، الأسبوع الماضي، غبريال عطّال وزيراً أول، خلفاً لإليزابيث بورن المستقيلة، بل المُقالة رغم تفانيها في خدمة أجندة الرئيس، إذ أفنت جهدها في إنزال المشاريع الرئاسية المثيرة للجدل، مثل قانوني إصلاح التقاعد والهجرة الذي  يُنتظر أن يحجب  المجلس الدستوري بنوداً عديدة فيه، وانحدرت شعبيّتها في استطلاعات الرأي، حيث طالب ثلثا الفرنسيين بتغييرها، ما دفع الرئيس إلى اختيار شخصيةٍ تحظى بأكبر شعبية في الاستطلاعات نفسها، مخافة زيادة تضاؤل شعبيّته المتضائلة أصلاً.
لكونه أصغر رئيس فرنسي عند توليه الحكم (39 سنة)، يعرف متابعو ماكرون مدى اعتزازه بنفسه وافتخاره بإنجازاته وحبّه الحُكم والتحكّم المباشر، وخرقه العادات والتقاليد المتعارف عليها داخل الطبقة السياسية الفرنسية، مع تعطّشه للأضواء والظهور بصورة الثائر المجدّد الذي ينفض الغبار عن أساطين الجمهورية الخامسة. ومن ثمّة هو محبٌّ كل ما يثير الجدل، وكل ما يجعل منه السبَّاق إلى أمور لم يسبقه إليها أحد، وكل ما يحقق الصخب الإعلامي والنقاش السياسي الطويل والمستمرّ، فهو صاحب سياسة "في الوقت نفسه" التي تجمع بين المتناقضات، وتجعل الانتهازية السياسية المُسَوَّقة تحت عنوان "الواقعية  أو البراغماتية" خط تحريره وطريقة اشتغاله، وهو ما يظهر جلياً في اختياراته. ومن ثمّة يأتي انتقاؤه وزير التربية الوطنية غبريال عطّال (34 سنة) الذي نشأ في الدواوين الوزارية، ليكون أصغر رئيس للوزراء في تاريخ الجمهورية، ليحقق ماكرون عدة مقاصد بهذا الاختيار. فالرجل الذي نشأ وترعرع سياسياً تحت عباءته، سيلعب دور المنسّق أكثر منه دور الوزير الأول، وسيطبّق ما بقي من البرنامج الرئاسي، وينفذ أوامر سيده بحذافيرها، خصوصاً مع تخوّف الرئيس من نقصان سلطته مع قرب نهاية عُهدته الرئاسية، وهي الأخيرة، وخوفه من اضطراره إلى الرجوع إلى الظلّ، في ظل اختيار شخصية قوية وطموحة، علاوة على أن هذا الاختيار يحقّق الضجّة الإعلامية المرغوبة والمقصودة، وهو ما حصل فعلاً.

انخرط غابريل عطّال في الحزب الاشتراكي يافعاً، وأصبح عضواً في ديوان وزيرة الصحة الاشتراكية سنة 2012

انخرط غابريل عطّال في الحزب الاشتراكي يافعاً، وأصبح عضواً في ديوان وزيرة الصحة الاشتراكية سنة 2012، التحق في 2016 بحزب الرئيس ماكرون، وأصبح نائباً برلمانياً في السنة التالية. وفي 2018، مع تعيينه وزيراً للدولة منتدباً لدى وزير التعليم الوطني والشباب، أصبح أصغر وزير في تاريخ الجمهورية الخامسة، وصعد نجمُه عندما أصبح ناطقاً رسمياً باسم حكومة جان كاستكس، فهو يتقن الخطاب والتواصل، حتى صار نجم شاشات القنوات الإخبارية، حيث استطاع البروز إعلامياً والدفاع عن الاختيارات الرئاسية، ما زاده حظوة عند ماكرون، بالإضافة إلى أنه ينتمي إلى الدائرة الضيّقة المحيطة بالرئيس، مثل وزير الخارجية المعيّن، استيفان سيجورني، رفيقه في الحياتين، العامة والخاصة.
ما سرّ شعبية هذا الرجل التي جعلته يقفز إلى أعلى، ويتجاوز وزراء كانوا يطمحون إلى هذا المنصب، وأبرزهم وزير الداخلية، جيرالد درمانان، صاحب المواقف اليمينيّة المتطرّفة، أو وزير الاقتصاد والمالية الذي اشتغل عطّال تحت إمرته وزيراً للميزانية، أو بعض الشخصيات المتمرّنة والوازنة، ذات التجربة والإرث السياسي الثقيل، وكيف استطاع الوصول إلى هذا المنصب المهم، بالرغم من حداثة سنّه وقلة تجربته؟
السر في اختيار المواضيع التي تضرب على الوتر الحساس، وتسترضي غالبية الشعب الفرنسي الذي باتت أغلبيته الساحقة تميل إلى اليمين المتشدّد، وبالإطناب في الحديث في شؤونٍ لا تسمن ولا تغني من جوع، ودغدغة أسماع السامعين وعواطف المتعاطفين وإثارة مشاعرهم الوطنية الجيّاشة التي ما زالت تحلُم بعودة فرنسا الاستعمارية الصافية من الأعراق الأجنبية العربية الإسلامية، وذات الحضارة اليهودية المسيحية الصِّرفة، التي لا تتجلّى فيها أية مظاهر دينية تعارض العلمانية الفرنسية التي تستعمل شمّاعة لمحاربة مظاهر التديّن المزعجة، ولمكافحة أشكال الانتماء، ولو الشكلي، إلى حضاراتٍ أخرى.

عوض الحديث عن المشكلات الحقيقية للفرنسيين، اختار عطّال سياسة التمويه والتخدير والتنويم، ونجح فسطع نجمه

فهم غابريال عطّال، ذو الأصول التونسية، هذا الأمر، كما فهمه رئيسُه من قبل، فعوض الحديث عن المشكلات الحقيقية للفرنسيين، مثل ضعف القدرة الشرائية وزيادة التضخّم وارتفاع أثمان المحروقات، وتصاعد الفوارق الاجتماعية وزيادة العنف بكل أشكاله، أو الحديث كوزير للتربية الوطنية في شأن التعليم المتهاوي رُتبةً عالمياً باقتراح حلولٍ فعّالة لجبر نقص الأساتذة في المواد العلمية، مثل الرياضيات التي لولا الأجانب لما وُجدوا ولما اكتفوا، وإيجاد حلول للهدر المدرسي وتدنّي المستوى التعليمي، خصوصاً في المناطق الفقيرة المهمّشة، عوضاً عن هذا كله، اختار عطّال سياسة التمويه والتخدير والتنويم، ونجح فسطع نجمه. فبالرغم من توجّهاته اليسارية بدءاً، فإنه لم يتوانَ عن اتخاذ مواقف يمينيّة متشدّدة رغبة ورهبة، شأنُه شأن كافله، رغبة في استمالة مناصري اليمين المتطرّف، خوفاً ورهبة من رؤية حزب التجمّع الوطني، العنصري، فائزاً في الانتخابات الأوروبية في يونيو/ حزيران المقبل. وبما أنّ الحصيلة الإجمالية لا يُعوّل عليها لرفع مستوى شعبية الرئيس والحكومة، لا بد من إيجاد حلول أخرى، وأسهلها وسْم الفرنسيين ذوي الأصول العربية والإسلامية، ونعتهم بأقبح النعوت، واتهامهم بعدم الاندماج داخل المجتمع الفرنسي، والضرب على أيدي ما تسمّى الانفصالية الإسلامية، شكلاً لا مضموناً، فمحاربة التطرّف، وهو موجود، يجب أن تجري في الصلب والعُمق بالتكوين، مع مرافقة هذا كله بالضجيج الإعلامي اللازم، وهكذا يُضلَّل الرأي العام، وتنجح طريقة التمويه فيفوز صاحبها، وهذا ما فعله عطّال، منع ارتداء الطالبات العباية في المدارس الحكومية وضيّق على الحريات فأصبح رئيساً للوزراء.

69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
69325256-4F5A-4368-9A3B-FD48F176325F
عمر المرابط
باحث، كاتب وخبير في الشؤون السياسية المتعلقة بمجال الخبرة
عمر المرابط