ماذا لدى الفلسطيني ليخسره؟

ماذا لدى الفلسطيني ليخسره؟

14 فبراير 2024
+ الخط -

لماذا يقاتل الفلسطيني؟ يجيب يحيى السنوار الذي تعتبره إسرائيل المخطط الفعلي لعملية طوفان الأقصى، وتريدُه حيا أو ميتا: وماذا لدى الفلسطيني ليخسره؟

هنا تبدو المفارقة واردة، فقد عاش الفلسطيني على الجمر منذ فتح عينيه على الحياة، وأية حياة؟ لكأنما الأقدار تآمرت عليه منذ لحظة ولادته الأولى، يوثق السنوار في كتابه "الشوك والقرنفل" الذي يقترب في أسلوبه من شكل الرواية سيرته الشخصية بالقدر الذي تكون فيه سيرة أي فلسطيني آخر حيث الأقدار متشابهة، والأحلام واحدة، ووقائع الزمان والمكان هي هي، وإن اختلفت، في بعض التفصيلات الصغيرة، وقد تمكّن السنوار من أن يكتب تلك "الرواية" في فترة سجنه المديد التي قضاها في سجون العدو، بعدما ما حكمت عليه محكمة عسكرية إسرائيلية لنشاطاته القيادية في صفوف المقاومة بأربع عقوبات مؤيدة قبل أن يحظى بفرصة إطلاق سراحه في صفقة تبادل الأسرى بين المقاومة وسلطات العدو عام 2011.

في طفولته، كانت كسرة خبزٍ تكفيه في الصباح، ثم يذهب ليتعلم القراءة والكتابة في المسجد أو في المدرسة الأولية، لم يكن قد سمع بالشوكولاتة أو تعرّف على مذاقات الفاكهة، يتذكّر أنه أكل التفاح، وهو طفل، مرّتين، وأحب حبّات "الحامض حلو" التي كان يشتريها من الدكان القريب، وعندما كبر قليلا رأى أن وجبات طعامه اليومي مع أسرته لا تضم سوى البصارة والعدس والفول والزيتون، وليس أكثر. وفي ذهابه الى المسجد أو المدرسة كان عليه أن يطوي الدرب مشياً، وفي الليل كان يدرس على السراج. مقابل هذا، تعلم من مجتمعه الإصرار على طلب العلم من المدرسة، ومن الحياة أيضا، كما اختبر الصمود في مواجهة التحدّيات التي لاحقت أي فلسطيني آخر، وهو لم يزل فتيّا.

اكتشف مرّة أن أولاد الحارة الذين يلعب معهم صنفان، عرب ويهود، وعرف في ما بعد أن هناك يهودا قدموا من بلدان أخرى، واستوطنوا بلده، وسيطروا على مقدّراته. وعندما شبّ عن الطوق، عرف معنى أن يحتلّ الأغراب أرضه، فيما هو وإخوانه وأصدقاؤه يعانون من الفقر والمرض وانعدام الرعاية، وأدرك أن المعادلة غير متكافئة، وأن ذلك كله يفرض واجبا على الرجال، أن يقاوموا، أن يحملوا السلاح كي يطرُدوا أولئك الأغراب، ويعيشوا في بلدهم آمنين، لكن الأقدار لا تجري بسلاسة، وإن عليه، كما على رفاقه، أن يصنعوا أقدارهم بأنفسهم، وقد سمع في أحاديث رجال عائلته "حياة دقيقة واحدة بعزّة وكرامة، ولا ألف سنة تحت بساطير جنود الاحتلال"، و"الكلام المزبوط" أن "ما بيحرث الأرض غير عجولها".

اختبر السنوار الصمود في مواجهة التحدّيات التي لاحقت أي فلسطيني آخر، وهو لم يزل فتيّا

استقرّت هذه المقولات في قلب السنوار وفي عقله منذ نشأته الأولية، وهو يرى بأم عينيه كيف يضرب جنود الاحتلال أبناء قومه من الرجال العزّل، ويطلقون عليهم النار على نحو عشوائي، فيقتلون منهم، ويصيبون، ويهدمون بيوتهم بالجرّافات، ويحيلونها ترابا، قد خطّط في ذهنه ليكون، في أيامه القادمة، واحداً من أولئك الرجال، مثل أبيه أو عمّه، أو جيران أسرته الذين انتظموا في خلايا صغيرة يرصدون المحتلين، وينشطون في مواجهتهم بالحديد والنار، ولم لا؟ وقد تعرّضوا لظلمٍ تاريخيٍّ لم يتعرّض لمثله شعب من شعوب الأرض، وتحمّلوا من المعاناة والأوجاع ما لا يصبر عليه بشر، ثم ماذا لديهم ليخسروه؟

مرّ السنوار بمحطّات عديدة، واجتاز اختباراتٍ صعبة، فقد ساهم في النشاطات الطلابية في مدرسته الثانوية في غزّة، وكذا في الجامعة الإسلامية التي تخرّج منها، وانتظم في صفوف العمل الفدائي، وعمل مع التيارات الإسلامية التي شكّلت محور فعاليات المقاومة فترة، وتولى دورا قياديا في حركة حماس. وله آراؤه ووجهات نظره الخاصة في مختلف التوجهات الفكرية والعملية، ولم يكن راضيا عن اتفاقيات أوسلو، ومعاهدة كامب ديفيد، ومسيرة التطبيع التي اقترفتها دول عربية، وكان في كل ما يطرحه يعطي الأولوية لفلسطين، القضية، والماضي، والحاضر، والمستقبل.

وبعد إطلاق عملية طوفان الأقصى أصبح السنوار مطلوبا من سلطات العدو، ووصفه الناطق باسم الجيش الإسرائيلي، ريتشارد هيغنت، بأنه "وجه الشر على إسرائيل"، وعبّر أكثر من مسؤول إسرائيلي عن خيبته لعدم استطاعة السلطات القبض عليه واعتقاله، رغم أنها فتشت غزّة شبرا شبرا، واقتحمت أنفاقاً عديدة فيها بحثاً عنه، وهي تعرف جيدا أنه لم يغادر غزّة، ولا يزال يشرف مع رفاقه على نشاطات المقاومة وفعالياتها.

وهكذا يضع السنوار، مثل كل فلسطيني آخر، روحه على راحة يده، وليس لديه ما يخسره.

583FA63D-7FE6-4F72-ACDD-59AE85C682EB
عبد اللطيف السعدون

كاتب عراقي، ماجستير علاقات دولية من جامعة كالجري – كندا، شغل وظائف إعلامية ودبلوماسية. رأس تحرير مجلة "المثقف العربي" وعمل مدرسا في كلية الاعلام، وشارك في مؤتمرات عربية ودولية. صدر من ترجمته كتاب "مذكرات أمريكيتين في مضارب شمر"