ماذا تعني العودة العسكرية الأميركية إلى الصومال؟
وقّع الرئيس الأميركي، جو بايدن، أمرًا تنفيذيًّا، في منتصف شهر مايو/ أيار الماضي، بإعادة نشر مئات من قوات العمليات الخاصة الأميركية في الصومال، والتي سحبها سلفه دونالد ترامب. ويعني هذا، ضمن ما يعني، تراجعًا سريعًا عن شعار بايدن "إنهاء الحروب الأميركية الطويلة الأمد في الخارج إلى الأبد". كما أنه يذكّر الصوماليين بسجل أميركا السيئ في بلادهم، المتمثل بمشروع "الحرب على الإرهاب"، والذي استمر تحت ثلاث إدارات أميركية سابقة في الصومال.
وتأتي الخطوة الأميركية الجديدة في ظل دخول ديناميكياتٍ جديدةٍ على مسرح القرن الافريقي، يمكن أن تحوّلها إلى ساحة جديدة من ساحات الحرب الباردة المقبلة، بسبب الانعطافات التي يشهدها النظام العالمي، وتطاول أمد الحرب في أوكرانيا، وتزايد المواجهة الصينية ــ الروسية مع أميركا في المسرح الدولي. وربطت بعض التحليلات الخطوة الأميركية بالاكتشافات الغازية الجديدة في الصومال، والتي قد تدفع الشركات الأميركية إلى السعي للاستحواذ على امتيازات التنقيب والحفر فيها.
العمليات الأميركية في الصومال تلحق خسائر فادحة بالمدنيين والبنية التحتية الهشّة أصلا
النهج الأميركي السائد والمعلن إزاء الانخراط طويل الأمد في الصومال يتمحور حول المواجهة مع "حركة الشباب المجاهدين"، التابعة لتنظيم القاعدة، وسارعت الخارجية الأميركية إلى تبرير قرار بايدن، أخيرا، بالتهديدات المرتبطة بالإرهاب. وبالفعل، تنامى نشاط الحركة بنسبة 71% خلال العام الجاري (2022)، كما حققت إيرادات تبلغ حوالي 250 مليون دولار في عام 2021. وهو ما يجعلها من أكثر التنظيمات الإرهابية تمويلاً. وفي الآن ذاته، برزت دوائر صومالية وخارجية تتبنّى خيار إقامة حوار مع الحركة، وعقد تسوية معها لإنهاء الصراع؛ وهو ما يثير المخاوف بشأن أن يتكرّر السيناريو الأفغاني في الصومال.
يعتقد الكاتب هنا أن الزعم الأميركي بمواجهة "الشباب" لا يكفي لتفسير القرار؛ فالقوات الأميركية لا تقوم بأي مواجهة مباشرة مع الحركة، ويقتصر وجودها في السنوات الماضية على تدريب القوات الحكومية الصومالية، تحديدا قوات "دانب" الخاصة وقوات أمن ولاية بونت لاند للحدّ من تهديدات الحركة. مع أن كلتي القوتين المدرّبتين أميركياً انخرطتا في مواجهات داخلية في أقاليمهما، سواء في بونت لاند أو في حالة "دانب". كما أن الوجود الأميركي يساعد لوجستيا واستخباراتيًا بعثة الاتحاد الأفريقي في الصومال (أميصوم)، والتي نشأت أساسا بتدخل إثيوبي ــ أميركي متناغم في الصومال في عام 2006، وتتكون من حوالي 22 ألف جندي من بوروندي وجيبوتي وإثيوبيا، وكينيا وأوغندا. وتتمثل مهمتها في مساعدة القوات الصومالية على جلب الاستقرار ومحاربة حركة الشباب. وأعيد تشكيل البعثة في هذا العام تحت تسمية "أتميس"، بعد تمديد مهامها إلى 2024.
تبدو مواجهة واشنطن الجيواستراتيجية مع الصين وروسيا في القرن الأفريقي إحدى (وأهم) المبرّرات التي قد تفسّر تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الصومال
على أرض الواقع، وبالنسبة للصوماليين القاطنين في مناطق وسط الصومال وجنوبه، تعني العودة الأميركية لهم اعتبار جزء كبير من أراضيهم ساحة مفتوحة ومستباحة لمواجهة "العدو"، خصوصا أن بايدن وقّع في مايو/ أيار الماضي، طلبًا من البنتاغون، يجيز استهداف قادة حركة الشباب المشتبه بهم بشكل مباشر، بينما اقتصرت سابقًا الضربات الجوية على الدفاع عن القوات الحليفة، حينما تواجه تهديدًا مباشرًا.
وقلما تلتفت التحليلات الرائجة بشأن العمليات العسكرية الأميركية في الصومال إلى معاناة الناس العاديين، حيث يُعاملون بوصفهم أضرارا جانبية بمعناها الأشدّ استهتارًا، وبمنطق السلوك الأميركي في مواجهة الأعداء في الخارج. وقد وثّقت منظمة هيومن رايتس ووتش بتقارير عدة هذه الاعتداءات على المدنيين، وقدّمت بأدلة دامغة أن العمليات الأميركية في الصومال تلحق خسائر فادحة بالمدنيين والبنية التحتية الهشّة أصلا. بالإضافة إلى ذلك، تُفاقم الغارات الجوية، التي تقتل المدنيين وتصيبهم، وتدمّر المزارع وقنوات الري، من حدّة الفقر والنزوح الداخلي. وعادة تقابل القيادة العسكرية الأميركية في أفريقيا (أفريكوم) هذه الاعتداءات بالإنكار، وفي المرّات النادرة التي اعترفت بقتل مدنيين، لم تقدّم تعويضات لذويهم.
لقد استمرّ النهج الأميركي بتنفيذ عمليات عسكرية في الصومال منذ التدخل العسكري في أوائل التسعينيات، وحوّلت الصومال مسرحا لمواجهة "الإرهاب الدولي"، وبنت أوهاما لربط بناء الدول الفاشلة وتحقيق الحسم العسكري ضد الإرهاب وفواعل ما دون الدولة الآخرين، وقدّمت مراكز التفكير اليميينة توصيات عديدة لهذه السياسات. وعندما انسحبت الولايات المتحدة في مطلع العام الماضي (2021)، فسّر بعض المتفائلين الانسحاب كاستفاقة متأخرة لواشنطن بأن الضربات الجوية لا تعالج الأسباب الجذرية لعدم الاستقرار، بل، في أحيانٍ كثيرة، تؤدّي الى نتائج عكسية، ورأوا أن التعويذة التي قدّمتها الولايات المتحدة منذ منتصف التسعينيات، وحتى قبل أحداث "11 سبتمبر" 2001، بإصلاح الدول الفاشلة عبر التدخل العسكري لمحاربة الإرهاب لم تؤتِ أكلها في الصومال، بل أصبحت حالةً أنموذجية لمدى فداحة هذا الخيار.
ليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى التركيز على الجوانب السياسية للتعامل مع الحالة الصومالية
تبدو مواجهة واشنطن الجيواستراتيجية مع الصين وروسيا في القرن الأفريقي إحدى (وأهم) المبرّرات التي قد تفسّر تعزيز الوجود العسكري الأميركي في الصومال وعند المدخل الجنوبي للبحر الأحمر. ويتضح هذا من تحرّكات واشنطن لتعزيز علاقاتها الأمنية والسياسية مع صومالي لاند، فقد استضاف الإقليم في مارس/ آذار الماضي محاضرة مؤسسة هيريتيج لرئيس صومالي لاند موسى بيحي عبدي، والذي قدّم نفسه بديلا للتعامل مع الحكومة الفيدرالية لمواجهة الصين في القرن الأفريقي. ومرّر الكونغرس في أوائل الشهر الماضي (يونيو/ حزيران)، قانونا يجيز التعامل مع صومالي لاند بصفة خاصة، كما زار قائد "أفريكوم"، الجنرال ستيفن تاونسند، هرجيسا في 12 مايو/ أيار الماضي. ويرجّح هذا كله أن الولايات المتحدة ترى صومالي لاند بديلا محتملا في ظل استمرار حكومة مقديشو في فشلها الداخلي وميلها نحو الصين.
وتُعتبر مدينة بربرة الساحلية، والتي تستضيف مدرج مطار عسكري بناه الاتحاد السوفييتي في خلال الحرب الباردة، أكثر المناطق الاستراتيجية في المدخل الجنوبي للبحر الأحمر، ويمتدّ طول خط صومالي لاند الساحلي 800 كيلومتر (500 ميل)، في أكثر طرق الشحن ازدحامًا في العالم. والمدينة بهذا تشترك بالموقع الاستراتيجي مع جيبوتي، جارة صومالي لاند الصغيرة، والمكتظّة بالقواعد العسكرية الأجنبية.
الخلاصة أنه في ما يتعلق بمحاولة تحقيق الاستقرار في منطقة القرن الأفريقي والبحر الأحمر، وكسب الحرب ضد حركة الشباب ومواجهة منافسيها الدوليين، ليس أمام الولايات المتحدة خيار سوى التركيز على الجوانب السياسية للتعامل مع الحالة الصومالية، والابتعاد عن المقاربة الأمنية.