حربٌ تلد أخرى في إثيوبيا
بعد أقل من عام على اتفاقية بريتوريا التي وضعت حدًا لحرب تيغراي المدمّرة، تدخل إثيوبيا فصلًا جديدًا من الحروب باندلاع حرب أخرى بين الحكومة الإثيوبية ومليشيات فانو المسلحّة في اقليم أمهرة؛ ثاني أكبر أقاليم إثيوبيا من ناحية عدد السكان.
توترت الأوضاع في الإقليم بعد اغتيال رئيس حزب الازدهار (الحاكم) في أمهرة جيرما يشيتيلا في 27 إبريل/ نيسان الماضي، رغم أنها لم تتحوّل إلى حرب مباشرة، لكن المؤشرات ظلّت، منذ ذلك الحين، تتّجه باتجاه الصدام بين مليشيات فانو المسلحة والجيش الإثيوبي. وبدأت المليشيات باستهداف قادة حكومة الإقليم، ما أجبر الاخيرة إلى حلّ نفسها، ومن ثم أعلنت الحكومة الفيدرالية الإثيوبية حالة الطوارئ في الإقليم في بداية أغسطس/ آب الماضي.
وترتبط خلفيات هذا النزاع، مثل سابقه في تيغراي، بأزمة غير محلولة في النظام السياسي الإثيوبي القائم على الفيدرالية العرقية، ويبدو أنه بات يؤبد تكرار هذه الحروب التي تتناسل من بعضها؛ فقد كان التبرير العملي الذي قدّمته النخب التيغراوية بطرحها نموذج الفيدرالية العرقية في التسعينيات هو الحدّ من الصراعات العرقية - الإثنية على الحكم في البلاد، إلا أن هذا النموذج نفسه أنتج أشكالًا جديدة من الصراعات "اللامركزية"، وعادت التناقضات البنيوية غير المحلولة في النظام السياسي إلى السطح. وكما يلاحظ الباحث الإثيوبي أسناك كيفالي، في دراسة معنونة "الفيدرالية والصراع العرقي في إثيوبيا: دراسة إقليمية مقارنة"، حصل في فترة الفيدرالية الإثنية انزياح من الصراع على نظام الحكم المركزي إلى مستوى الأقاليم. ويحدّد الكاتب استفحال ثلاثة أشكال من الصراعات تحت الفيدرالية الإثنية. الأول: تسييس العرقيات والإثنيات بطريقة غير مسبوقة لمحاولة الحصول على الاعتراف كأقاليم عرقية، وثانيه إذكاء النظام الجديد النزاعات الحدودية بين الأقاليم الإثنية المعترف بها من المركز. بينما يتمثل الثالث باحتدام الصراعات في داخل الإقليم بين الجماعات العرقية المتنافسة، خصوصًا في المناطق متعدّدة الأعراق والإثنيات، خصوصا إذا نظرنا إلى أن من بين الأقاليم الأحد عشر الفيدرالية الإثيوبية إثنين منها فقط متجانسان عرقيًّا (العفري والصومالي). ناهيك عن أن أعراق إثيوبيا تصل إلى أكثر من 90 مجموعة عرقية، والاعتراف بـ11 أقليماً فقط أقاليمَ دستورية بحد ذاته مخالف للدستور القائم على الفيدرالية العرقية، أقلّه نظريًّا، لكنه غير عملي على أرض الواقع.
انتهج أبي أحمد، منذ مجيئه إلى السلطة، تحجيم نموذج الفيدرالية العرقية، ويراها قنبلة موقوتة تهدد الدولة الإثيوبية
وعلى هذا، مثلت مطالبة العرقيات الاعتراف بها أقاليمَ فيدرالية إشكالية تؤرّق النظام الفيدرالي طوال العقود الثلاثة الأخيرة. وفي هذا الصدد، كان قد اقترح بعض المختصين، منهم المفكر السياسي محمود ممداني، تبنّي خيار الفيدرالية الإقليمية لمواجهة هذه المعضلة، حيث يمكن أن يتمتّع جميع سكان الوحدة الإدارية بحقوقٍ متساويةٍ في أقاليم تضم سكانًا متعدّدي الأعراق، إلا أن هذا الحل يواجه في الحالة الإثيوبية تحديّاتٍ ناجمة من الإرث التاريخي التي تركته الأنظمة السياسية التي حكمت البلاد منذ تشكلّها السياسي الحديث.
ظهر عجز نظام الفيدرالية الإثنية مع وفاة مهندس الفيدرالية العرقية؛ مليس زيناوي، في عام 2012، وعاد الصراع على شكل حكم الدولة وعلى السيادة بين الإثنيات الثلاث الكبرى: التيغراي والأمهرة والأورومو. وتوّج ذلك بقيام شباب القيرو (Qeerroo) بموجات احتجاجات واسعة في عام 2015؛ وهي حركة شبابية أورومية تناهض التهميش التاريخي ضد الأورومو، الذين يشكلون أكبر مجموعة عرقية في البلاد، وبدأت احتجاجاتهم أساسًا ضد توسّع حدود العاصمة على أراضيهم، وجابهتهم قوات الأمن بقتل حوالي ألف متظاهر أورومي خلال عام، ما أشعل مزيدًا من التوتّر بين الأورومو والحكومة المركزية، وللسيطرة على هذه التوترات، أقال الائتلاف الحاكم رئيس الوزراء هايلي مريام ديسالين في منتصف 2018، وعيّن بدلًا منه أبي أحمد رئيساً للوزراء.
انتهج أبي أحمد، منذ مجيئه إلى السلطة، تحجيم نموذج الفيدرالية العرقية، ويراها قنبلة موقوتة تهدد الدولة الإثيوبية، ويسعى بدلا من ذلك إلى ضمان صلاحيات واسعة للحكومة المركزية، كما يطرح في كتابه "MEDAMER"، وتعني بالأمهرية (التآزر)، ويعتبر مسألة الاندماج الوطني مشكلة ملحّة في إثيوبيا. وهذا النموذج الجديد الذي يقدمه أبي أحمد يثير حفيظة العرقيات التي هيمنت تاريخيًا على سلطة المركز، وهذا ما تسبّب بالحرب المدمرة في إقليم تيغراي، والذي راح ضحيته قرابة 800 ألف إيثوبي، لكنه، في النهاية، انتصر في الحرب ضد الجبهة، بتوقيعها تسليم السلاح في اتفاقية بريتوريا في جنوب افريقيا أواخر العام الماضي.
الأسباب الحقيقية وراء تفجر الصراع الحالي أعمق من قرار تسريح قوات الإقليم الخاصة
تتصل الحرب الجديدة في إقليم أمهرة بهذا السياق، وتستمر رحى الحرب الحالية بين مليشيا فانو والجيش الإثيوبي، ويعاني الإقليم من انتشار الجماعات الخارجة عن القانون، حيث إن تلك المليشيات ليست المجموعة الوحيدة المسلحة في الإقليم، فهنالك "قيمنت" وهم من يهود الفلاشا ويطالبون بالحكم الذاتي الإقليمي. (وبالمناسبة، أجلت إسرائيل الشهر الماضي مئات من اليهود الإثيوبيين والإسرائيليين).
المفارقة أن مليشيا فانو، التي تقاتل حاليا الجيش الإثيوبي، قاتلت إلى جانب القوات الاتحادية في حرب تغيراي التي استمرّت عامين في إقليم تيغراي المحاذي لها. وكانت مشاركتها في الحرب مدفوعة بالاستيلاء على مناطق تاريخية متصارع عليها بين إقليمي تيغراي وأمهرة. وفي أثناء حرب تيغراي، نجحت مليشيات فانو في توفير سلاح لعناصرها، وحقّقت دعمًا شعبيًا كبيرًا، كونها اندفعت بحماسة في الصراع المناطقي على الحدود، حتى إن أبي أحمد اتهمها في أحد التصريحات بأنها تسرق سلاح الجيش الوطني إبّان الحرب مع تغيراي. ويعود سبب قلقهم إلى أراض متنازعة مع إقليم تيغراي، وهذا يظهر من تبريرهم الحالي لإعلان الحرب بالقول: بإنه "تجاهل من الحكومة الاتحادية للأمن في أمهرة".
انفرط التحالف بين فانو والحكومة بعد قرار رئيس الوزراء أبي أحمد مؤخرًا تفكيك القوات الإقليمية الخاصة التابعة للأقاليم، ودمجها في الجيش، وهي خطوة قابلها القوميون الأمهرة برفض قوي. لكن الأسباب الحقيقية وراء تفجر الصراع الحالي أعمق من قرار تسريح قوات الإقليم الخاصة، وتنمّ عن توجس الأمهرة من المحادثات التي أدت إلى السلام بين تيغراي والحكومة، ويقولون إن التسوية لم تأخذ بعين الاعتبار الأراضي المتنازع بينها وبين تيغراي والتي استولى عليها مقاتلوهم خلال الحرب. نفس الأمر ينطبق على إريتريا التي تمر العلاقة بينها وبين أديس أبابا بحالة جمود. ويذهب مراقبون إلى أن فانو تتخذ من إريتريا مركزا لترتيب مقاتليها، في محاولة لاستغلال عدم رضا إريتريا عن الاتفاقية المبرمة مع التغيراي. فضلا على أنه تلوح لنخب الأمهرة فرصة لتحقيق مكاسب بحجم دورهم التاريخي، خصوصا في ظل الهزيمة الساحقة للتيغراي الذين شكلوا عقبة في طريق عودتهم إلى الحكم. (إنتهى حكمهم بإطاحة آخر أباطرة إثيوبيا الملك هيلا سيلاسي في عام 1975).
الحرب الجديدة تشكّل تحدّيًا خطيرًا لا يمكن الاستهانة به، حيث يعد دعم المنطقة حجر الزاوية في إدارة أبي أحمد
وصلت الحرب إلى ذروتها نهاية الشهر الماضي (أغسطس/ آب) عندما اتهمت السلطات المليشيات بمحاولة إطاحة الحكومة الاتحادية. وطاولت أعمال القتال المدن الرئيسية، بما في ذلك بحر دار، العاصمة الإقليمية، وغوندار، وهي مدينة تجارية رئيسية قريبة من حدود السودان. لكنها لم تأخذ حيزا من اهتمام الإعلام الخارجي بسبب انشغال الأخير في الحرب في السودان.
إذاً، بعد أقل من عام من انتهاء حرب تيغراي، تدخل إثيوبيا حربا جديدة، تزيد من كلفة الأعباء الاقتصادية والسياسية في البلاد، خصوصا بشأن النازحين على الحدود السودانية الإثيوبية، لكن من غير المرجّح أن تأخذ مسارًا شبيهًا بمسار حرب تيغراي، لسبب رئيسي، هو أن الحكومة الإقليمية لا تحارب الحكومة الاتحادية، وهذا فارق جهوري بين الحربين، بل اختارت الحكومة الانتقالية الاستقالة بعد ضغوط من مليشيات فانو، التي اغتالت مسؤولين حكوميين رافضين توجّه المليشيا في عدة مدن، والجدير بالذكر أن الحكومة في إقليم أمهرة تعرّضت لمحاولة انقلاب فاشلة عدّت الأخطر من نوعها في إثيوبيا في 22 يونيو/ حزيران 2019، وأسفرت عن مقتل حاكم الإقليم ومستشاره.
هذا لا ينفي أن الحرب الجديدة تشكّل تحدّيًا خطيرًا لا يمكن الاستهانة به، حيث يعد دعم المنطقة حجر الزاوية في إدارة أبي أحمد، وغالبًا ما يُنظر إلى إقليم أمهرة أنه الشريك الأهم للحكومة الفيدرالية. وتفجّر الصراع أحد المضاعفات لاتفاقية بريتوريا لأنها لم تتضمّن تنازلات لطرف ثالث انخرط في الصراع (إقليم أمهرة) وأن حل المشكلة سيتطلب حل قضايا المناطق المتنازع عليها في تيغراي. وستحتاج الحكومة الفيدرالية إلى الموازنة بين مقايضة عدم الاستقرار الحالي في أمهرة والاستمرار في نهجها القاضي بإصلاح المشكلات البنيوية في النظام السياسي، وفي الوقت نفسه، تجنّب الوقوع في حرب جديدة طويلة الأمد في الإقليم، لأن تداعيات تلك الحرب ستكون كارثية، خصوصًا مع الوضع السوداني القائم والمحاذي حدود الإقليم.