مؤتمر "جود" والنظام السوري
أعلنت مجموعة من القوى السياسية المعارضة داخل سورية عن عقدها مؤتمرا تأسيسيا، يوم أمس السبت الموافق 27/3/2021، بهدف تأسيس الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) من منزل أمين عام هيئة التنسيق الوطني، حسين عبد العظيم، في دمشق. ثم تسارعت الأخبار مساء الجمعة، قبل قرابة 24 ساعة من موعد انعقاد المؤتمر، عن قرار النظام منع انعقاد المؤتمر من دون الحصول على موافقة لجنة شؤون الأحزاب، وهو ما يهدّد انعقاد المؤتمر، وربما يسعد قوى معارضة كثيرة خارج سورية من ناحية ثانية. إذ تباينت آراء السوريين ضمن هيئات المعارضة الرسمية، وغير المؤطرين أيضا من المؤتمر، حيث ذهب بعضهم إلى اعتباره لعبة روسية، ورآه آخرون خطوةً تعمق الانقسام بين القوى المعارضة. وثمة من وجده تلميعا لصورة النظام السوري، إلى غير هذا وذاك من الآراء والتحليلات الممتعضة من الخطوة عموما. وتنكتب هذه المقالة قبل التأكد من النجاح أو الفشل في عقد المؤتمر، لتوضيح بعض المنطلقات الرئيسية بشأن تشكيل "جود" وعقد المؤتمر وعن نظام الأسد.
من حيث المبدأ، يخوض الشعب السوري صراعا مشروعا مع نظام النهب والاستبداد الأسدي منذ عشر سنوات، صراع بدأ شعبيا عبر احتجاجات جماهيرية متفرّقة أحيانا، وحاشدة وكبيرة جداً جداً في أحيان أخرى. ثم صعب على الشارع السوري ممارسة الوسيلة الاحتجاجية نفسها التي استبدلها بالمظاهرات الطيارة وفق التعبير الرائج، وهي مظاهرات خاطفة صغيرة العدد ومتوارية عن الأنظار، تهدف إلى إرسال رسالة أن الثورة مستمرة. وأخيرا نجاح النظام في قمع أي مظهر احتجاجي شعبي، بفعل ممارساته الإجرامية. ليتحوّل المعارضون إلى نشطاء إعلاميين أو إغاثيين، ومنهم من تحول إلى العمل العسكري، الأمر الذي أفرغ الساحة السورية الداخلية من مظاهر الاحتجاج الشعبي المنظم، أو حتى العفوي، وهو ما استمر فترة طويلة جدا، لم يقطعها سوى حراك "مشايخ الكرامة" في العام 2015، والذي انتهى أو خفت وتوارى نسبيا بعد اغتيال الشيخ وحيد البلعوس.
عمد النظام السوري إلى عسكرة الصراع، بدلا من تسييسه، من خلال إطلاقه سراح مختلف المحتجزين لديه على خلفيات إرهابية وإجرامية عنيفة
نجح النظام عبر القمع والقتل والقصف والاعتقال والتصفية في محو مظاهر الاحتجاج الشعبي، عفويا كان أم منظما، نظراً إلى دلالات هذه المظاهر الخطيرة عليه، وعلى وصورته وخطابه، وهو ما تفسّره الأولويات الأمنية التي نظمت استراتيجية النظام الأمنية على طول العقد المنصرم، أي منذ بداية الحراك الثوري السوري. حيث عمد النظام إلى عسكرة الصراع، بدلا من تسييسه، من خلال إطلاقه سراح مختلف المحتجزين لديه على خلفيات إرهابية وإجرامية عنيفة. بل ويسهل استنتاج مسؤولية النظام في مد هذه الجماعات بالسلاح، سيما في السنوات الأولى؛ ربما حتى العام 2015، وبالتحديد حتى التدخل الروسي. في مقابل سعيه إلى اغتيال جميع نشطاء الحركة الثورية السلميين، وتصفيتهم واعتقالهم، ولا سيما محرّكي الاحتجاجات السلمية ومنظميها ومعدّيها، والناشطين الإعلاميين، والناشطين الإغاثيين، فمن منا لا يذكر كيفية استهداف قناصة النظام رؤوس الهتيفة والمتظاهرين، واقتلاع حنجرة إبراهيم القاشوش، واعتقاله عشرات الشخصيات العامة المعارضة، لمشاركتهم في المظاهرات الاحتجاجية، وغيرها مئات من الوقائع والدلائل التي تثبت خشية النظام من أي مظهر احتجاجي داخلي، جماعيا كان أم فرديا، عفويا أم منظما، سياسيا أم اجتماعيا.
نجح النظام عبر القمع والقتل والقصف والاعتقال والتصفية في محو مظاهر الاحتجاج الشعبي، أكان عفوياً أم منظماً
من ذلك كله، مستغربة، بل مستهجنة، حالة الاستخفاف بجهود العازمين على عقد مؤتمر معارض داخل العاصمة السورية دمشق، وفق البيان التأسيسي المعلن والمنشور على صفحة الجبهة الوطنية الديمقراطية (جود) في "فيسبوك"، والذي نشرته غالبية الوسائل الإعلامية المعارضة، فالنص المنشور يوازي، في الحد الأدنى، أعتى بيانات المعارضة الخارجية، بل ويزيد عليها، برفضه جميع قوى الاحتلال الخارجية، بما يشمل روسيا وإيران وتركيا وأميركا والدولة الصهيونية. لكن الفرق الجوهري بين بيان "جود" التأسيسي وغيره يكمن في مكان إعلانه وفي إصرار معدّيه على تحدّي النظام داخل مناطق سيطرته، على الرغم من المخاطر الأمنية التي تهدّدهم، على الرغم من غياب مظاهر الاحتجاج الثوري الشعبي أو تراجعها. فالمؤتمر حركة احتجاجية نخبوية، تتحدّى النظام في مركز ثقله العسكري والسياسي والأمني، أي دمشق التي صعب، أو بالأصح، ندر كسر طوقها الأمني في ذروة النشاط الثوري. نعم، لا يمثل المؤتمر مظاهرة شعبية ضخمة تصدح بأصوات المتظاهرين، لكنه تحدٍّ كبير وضخم، وخطوة مهمة وكبيرة، عُقد المؤتمر أم لم يعقد، وسواء توافق المؤتمرون على إعلان تأسيس "جود" من دمشق، أم لم يتوافقوا. بل أكثر من ذلك هو فعل سياسي وثوري سليم، يناقض جولات قوى المعارضة الرسمية الخارجية من "الائتلاف" والمجلس الوطني ومنصات الدول المتعدّدة (روسي ومصري وإماراتي)، التي يخلو نشاطها من أي فعل ثوري مفيد، مثل اجتماعاتهم المرفهة في فنادق الخمس نجوم، ولقاءاتهم مع الوفود الدبلوماسية المتعدّدة، وصولا إلى مشاركتهم في الجولات التفاوضية العبثية.
لكن وعلى الرغم من إعجاب الكاتب هنا، واحترامه جرأة القوى المشاركة في صياغة بيان جود التأسيسي وإرادتها، وإصرارها على عقد مؤتمر تأسيسي في العاصمة دمشق، إلا أن خطوتهم ناقصة، وتعيد الأخطاء التنظيمية والسياسية نفسها التي دأبت قوى المعارضة على انتهاجها منذ بداية الحركة الثورية، حيث لا يتضمن بيان التأسيس أي جديد يذكر بعيدا عن مكان إصداره وكيفيته التي أولتهما الأهمية الأولى في الفقرات السابقة. إذ يصعب تبيان أي فرقٍ بين بيان "جود وغالبية بيانات القوى المعارضة السياسية، أي يمكن، بكل سهولة، استبدال الشعار والتوقيع، من دون أن يلمس القارئ ذلك أو حتى يشك به. حيث يعود ذلك بجوهره إلى حصر العمل السياسي المعارض في خندق التغيير الديمقراطي، وتقويض نظام الاستبداد والقمع والإجرام، ما يهمّش القضايا الاقتصادية وقضايا إعادة الإعمار التي تلامس معاناة (وتطلعات) سوريين كثيرين مهدّدين بالموت جوعا أو مرضا داخل سورية اليوم. وتحريك هذه القضايا والتركيز عليها، بالتوازي مع التركيز على قضايا الانتقال الديمقراطي، قد يساهم في استعادة نبض الشارع الثوري، الأمر الذي قد يسهّل على المعارضة الداخلية الجذرية (بعيدا عن التي يصنعها الأسد) خطواتها التي تعتزم تنفيذها، بل ربما يرفع سقفها عاليا جدا أيضاً.