ليليان شعيْتو أيقونة الشهداء الأحياء
ليليان شعيْتو عروس سعيدة. متزوجة من مغتربٍ في ساحل العاج. هي الآن في لبنان. أنجبت منذ شهرين ابنها علي. تجوّلت في وسط البلد، في بيروت، بحثاً عن هدية لزوجها المحبوب، بمناسبة عيد ميلاده. وفجأة، يحصل انفجار ميناء بيروت، فتُصاب ليليان إصاباتٍ بالغة، وفي رأسها خصوصاً، فتقع في غيبوبة، وخطر، وعلاج طويل ومكلف، في مستشفى الجامعة الأميركية.
منذ اللحظة الأولى لإصابتها قرّر زوجها، بدعم من أهله، منع وليدها عنها، بمصادرة جواز سفرها، بالحجْر عليها. ولم تنْفع كل المحاولات من أهلها بثني الزوج عن قراره. أي أنه خلال العامين اللذين مضيا على إصابتها، لم ترَ ليليان وليدها، لم تشعر به، لم تلْمسه.. كما ينصح الأطباء والمعالجون النفسيون وكل قوانين البشرية السوية.
منذ بضعة أشهر، تحسّنت حالة ليليان قليلاً، وأصبحت تشعر بما حولها، وتتواصل عبر إشارات بعينها أو أصابع يدها، تتلفّظ بكلمة واحدة "ماما". فكانت غصّة أهلها، ونصيحة المعالج النفسي بأن يأتوا بدمية لرضيع، وتضعها على صدرها. وكان الشريط الذي هزّ الضمائر الصاحية، ومطالبات وبوسْتات، من أجل أن يحضر علي لتلْمسَه أمّه، لتشعر به، لتشمّ رائحته، فكانت المعجزة، بأن حضر علي إلى المستشفى، ومدّ يده لأمه، وهي تفاعلت معه.
حضور إعلامي للسيدة نوال شعيْتو، شقيقة ليليان، وعرضها لفصول الحرمان والظلم والتخلّي، وتساؤل في النهاية إن كان زوج ليليان وأهله يريدون إنهاء وجودها، وعرض للحالة الاستشفائية، تبيّن أن ليليان تحتاج استكمال علاجها في الخارج، وأن الجهة الخيرية التي تكفّلت بعلاجها لم تعُد قادرة على الاستمرار، فجوابٌ بصيغة "بيان" للزوج، حسين حدرج، تتصدّره آية قرآنية، تصيب "الفاسق". وردوده من نوع أن ليليان عولجت على نفقة وزارة الصحة، وبأن الباقي هو تكفَّل به، وبأن رحلة ليليان إلى الخارج "هي رحلة ترفيهية"، وبأن ثمّة جهات مشبوهة افتعلت "همروجة إعلامية"، بـ"أكاذيب" و"فبْركات متواصلة ومتناقضة"، فيما منع رؤية علي كان "بناء على طلب الأحباء".
ابن ليليان، علي، حضرَ إلى المستشفى ونظرَ إلى أمه. كل لباسه بالأسود، أي أنه يشارك في الطقوس العاشورائية التي ينظمها الثنائي الشيعي بقيادة حزب الله
يصعب تصديق هذا "البيان". معطياته تشبه تلك الصادرة عن المرجعية الدينية التي يتلطّى خلفها. فهو مبنيٌّ على جدائل منسية من الأكاذيب، تسمح له بتجاوز حقوق طبيعية سكتَ عنها. من نوع حرمان ليليان من زيارة ابنها. ثانياً، وتالياً، لأنه لولا صلة الزوج القوية بهذه المرجعية، ما كان تمكّن من أمومة زوجته عامين متواصلين، بحرمانها من مولودها. وما هذه المرجعية إلا حزب الله، الذي تقع على كاهله ثلاث مسؤوليات كبرى في عذابات ليليان شعيْتو:
- مسؤولية حزب الله بانفجار المرفأ. ورواية النيترات التي خزّنها لغرض دائماً سري، والتي لا ينفع معها إعلان حسن نصر الله، على إثره، أنه يجهل ما يدور في المرفأ من تنقلات، ودخول وخروج.. إلخ. ومن المنطقي بعد ذلك أن يعمل الحزب نفسه على تعطيل مهمة المحقّق العدلي طارق بيطار، كما عطّل التحقيق في جريمة رفيق الحريري قبل ذلك بسبعة عشر عاماً. فما إن ظهرت على القاضي معالم الاستقلالية والنظافة، حتى أطلق نصر الله نفير إبعاده، وقال: "عمل القاضي الحالي استنسابي وفيه استهداف سياسي ولا علاقة له بالعدالة". فكرّت السبحة، وانقضّت الجوقة على القاضي بيطار، شعارها "لا تحقيق إلا إذا كان شاملاً مطلقاً"، بتلاوين من المزايدات التي لا بد منها من هنا وهناك، فأحبِط عمل القاضي وأصيب التحقيق بالشلَل. ولا تأمين بعد ذلك لضحايا الانفجار، ولا حتى مواساة، إنما انكباب على النسيان.
- مسؤولية حزب الله في انهيار لبنان، بصفته قائد دولته وحكامها. معه انهيار مصارفه وقطاعه الصحي. لم يكن ممكناً لأهل ليليان سحب أموالهم المحجوزة في المصارف، مثل غيرهم من اللبنانيين. بل وفوق ذلك، لم يعُد ممكناً العلاج على نفقة وزارة الصحة المفلسة، ولا حتى التأمين الخاص الذي يدخلك في دهاليز شيطانية لو أردت أن تستفيد من الذي دفعته له تأميناً على صحتك. ولا عادت المستشفيات متمكّنة من مواردها المختلفة. تعالج ليليان على نفقة الخيّرين، وفي مستشفى منزوع من إمداداته وموارده، مرتفع التكاليف، وبات عاجزاً عن الانتقال إلى مستوى أرفع من علاجها.
- مسؤولية حزب الله في المستوى الأخير من مأساة ليليان تتلخّص بالمحكمة الجعفرية، ويسيطر عليها حزب الله، وشريكته حركة أمل. البيان الذي أصدرته المحكمة الجعفرية العليا "توضيحاً"، لقرار حرمان ليليان من رؤية ابنها، بعد الضجّة التي أثارها فيديو دمية الرضيع.. يقول إنها أصدرت "أحكاماً قطعية تبيح للسيدة ليليان شعيْتو وذويها رؤية ولدها، وأن تنفيذ هذه الأحكام مرتبط بدائرة تنفيذ العدلية، والمستشفى الذي تتلقى العلاج فيه. وبالتالي، ارتفعت يد المحكمة عن الملف بعد صدور الحكم اللازم". طبعاً، لا يعتدّ بالكلام الجميل، إنما بالتنفيذ. ومعروف أن المحكمة، عندما يكون الحكم هو انتزاع الأولاد من أمهم الطليقة، في سن الحضانة "الشرعية"، ترسل الشرطة لتنفيذ حكمها، فتقتحم هذه الأخيرة منزل الأم وتسحب أطفالها عنوة، وسط صراخ الأم والأولاد وبكائهم. .. وعلى المنوال نفسه، طلبت المحكمة من الزوج أن يعيد إلى ليليان جواز سفرها، فكان الردّ من عائلة الزوج أننا نعيد جواز السفر، بشرط أن توقعوا على إعفاء ابننا من دفع تكاليف علاجها. عائلة ليليان وافقت على الشرط، ولكن جواز السفر الضروري للرحلة العلاجية لم يعُد إلى صاحبته إلا قبل يومين.
لدى الطائفة الشيعية، التغير مستبعد تماماً. هي الطائفة الوحيدة التي يحكمها رأس واحد
ابن ليليان، علي، حضرَ إلى المستشفى ونظرَ إلى أمه. كل لباسه بالأسود، أي أنه يشارك في الطقوس العاشورائية التي ينظمها الثنائي الشيعي بقيادة حزب الله. وهذه السنة زاد اهتمامهما بـ"الأجيال الصاعدة"، وخصّصا لها "المضيْف العاشورائي للأطفال"، و"مجالس الفتية والفتيات" إلخ... بلغ علي العامين من العمر، ما سيجيز للأب أن يستحوذ عليه. ما سيجعل أيام ليليان المقبلة أكثر جحيمية. فمنذ الآن، باتَ من حق الأب "حضانة" ابنه شرعاً، أن يبعد الابن عن أمه، أن يخفيه عن نظرها، عائداً به إلى أفريقيا، أسوة برجالٍ سبقوه، وتركوا خلفهم عدداً لا يُحصى من الأمهات الشيعيات المنكوبات.
ونقطة الحضانة بالذات شغلت أولئك الأمهات. وكان حراكهن قبل أربع سنوات، أمام المحكمة الجعفرية والمجلس الشيعي الأعلى، احتجاجاً عليها. ومطالبتهن برفع سن الحضانة لدى هذه المحكمة، ومسيرات تضامنية، بمشاركة تنظيمات نسائية مدنية، وتشَكُّل "الحملة الوطنية لرفع سن الحضانة لدى الطائفة الشيعية". وخلف هذه المبادرة، تزايد حالات الانتزاع، ومأساة أمهات، وأول امرأة لبنانية تدخل السجن بعد ارتكابها جريمة رفض تسليم ابنها، ابن العامين، إلى طليقها الساكن مع زوجته الجديدة.
نادين جوني وزهرة ياسين وخديجة بيطار وعبير خشاب... شغلت هذه الأسماء الرأي العام في لبنان، وكان التعاطف والتضامن. ونظرة إلى عموم المحاكم الشرعية، وعددها خمس عشرة، بعدد الطوائف المُعترف بها في لبنان، ومقارنات لا بد منها، فالمحاكم الشرعية عموماً هي مجال بهْدلة النساء وإذلالهن، خصوصاً المطلقات منهن. ولكن البهْدلة نسبية. المسيحيات يتدبّرن أمرهن كيفما اتفق، بالنفوذ، المال، بالعلاقات. أما المسلمات، من سنّيات ودروز، فقد حققن "تقدّماً"، من هذه الناحية: عبر اللوبينغ، والأخذ والرد ّوضغوط ومفاوضات، بين المرجعيتين الدينية والسياسية، المفتي وسعد الحريري، حصلت الأمهات السنيّات على حق حضانة أبنائهن حتى الثانية عشرة من العمر (2012). الأمر على المنوال نفسه لدى النساء الدرزيات. القيادتان، الدينية والسياسية، وليد جنبلاط والمجلس المذهبي الدرزي، اتفقتا، بعد ضغوط الجمعيات النسائية الدرزية، على رفع حضانة البنت إلى 12 سنة، وحضانة الصبي إلى الرابعة عشرة (2017).
يصعب تصوّر مآل الصحة النفسية لعلي، ابن ليليان. الأرجح أن ما سيسهّل عليه تذكّر أمه أنها باتت أيقونة الشهداء الأحياء لانفجار المرفأ
لدى الطائفة الشيعية، التغير مستبعد تماماً. هي الطائفة الوحيدة التي يحكمها رأس واحد. هو رأس ديني. حسن نصر الله هو القائد السياسي والقائد الروحي. مثله نعيم قاسم، وغيرهما من كادرات وقيادات سياسية معمّمة. وهؤلاء لا يمكن لهم أن يفاوضوا على قانون مُنزَل، "شرعي" يحميه الله والسلاح والمرجعية الخمينية. حتى لو اقتضى الأمر اقتصاص أبرز رجالاته، مثل نواف الموسوي، في معركته ضد هذا القانون. لا يوجد لدى الشيعة اللبنانيين مسؤولون زمنيون يفاوضون مسؤولين دينيين، بضغط من جمعيات نسائية شيعية. وما يزيد الأمر وضوحاً أن التقية ما عادت ضرورية، فالقائد الجامع بين السياسي والديني، حسن نصر الله، صار يعتقد أنه حانت لحظة القول جهاراً "أنا الله مكلّفني، إنت مين مكلّفك، أنا الله مكلّفني، نحنا ناس الله مكلّفنا، إنت مين مكلّفك؟".
تتناقض الحرية، كل أنواع الحرية، مع هذا القول "الإلهي". قول لا يستطيع أن يخفي أنه يحمل مطْرقة الحكم على النساء، بتجميد حياتهن، بإيقافها، بتحويلها إلى أصناف صامتة من جهنم، خلف أسوار المنازل الموسْوسة، تتناقض مع الحياة نفسها، مع أي حياة وقانونها الطبيعي، السائد عند المخلوقات كافة. من أن الأم هي المحور الأول لطفلها، وأنه من دونها تكون ثمّة فجوة داخل البطن، سوداء هائلة، تلازم المحروم من أمه طوال حياته.
يصعب تصوّر مآل الصحة النفسية لعلي، ابن ليليان، بعدما يكبر قليلاً، أو كثيراً. ولكن الأرجح أن ما سيسهّل عليه تذكّر أمه أنها باتت أيقونة الشهداء الأحياء لانفجار المرفأ، الواقع بعد شهرين من ولادته.