ليس صراعاً على دجاجة
كان الفتى حسين، ابن الثلاثة عشر ربيعاً، وابن بلدة ميس الجبل الحدودية في جنوب لبنان، يضع طعام الصباح لدجاجته التي اشتراها له والده قبل أيام، ووضعها في "قنّ" على بعد أمتار قليلة من الخط الأزرق (خط الانسحاب) الذي تمّ ترسيمه بين لبنان وقوات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000. خافت الدجاجة من حسين الذي كان يبذل ما في وسعه لإطعامها وإسعادها من فرحته بها، وفرّت على غفلةٍ منه، نحو الشريط الفاصل للحدود، فعدا خلفها يريد استعادتها، غير أنّ قوات الاحتلال الإسرائيلي كانت ترصد كل حركة الفتى، فصوّب جنودها بنادقهم فوق رأسه، وراحوا يطلقون النار لإرهابه وإخافته. وهنا تمكّنت الدجاجة من عبور خط الانسحاب إلى الطرف المقابل للحدود، لتجد نفسها في مكان آخر من دون أن تدرك أنّها خلّفت أزمة سيعمل أطرافٌ عديدون على حلّها. وأمام إصرار الفتى على استعادة دجاجته، كان لا بدّ لجنود قوات الطوارئ الدولية (يونيفل) أن يتدخلوا ويحضروا إلى المكان مع جنود الجيش اللبناني، وطبعاً بشكل غير رسمي عناصر من حزب الله، ولتجري بعد ذلك سلسلة من الاتصالات الطويلة مع الطرف المقابل من أجل استعادة الدجاجة، وقد استعادها الفتى بالفعل.
ليس الصراع هناك على الدجاجة، تلك الدجاجة التي ربما حتى أنّها لا تبيض، وإنما هو على الدجاجة الأخرى التي تبيض ذهباً أسود، على النفط والغاز، أو ربما حتى على الوجود وليس الحدود.
قبل بضعة أشهر، انطلقت مفاوضات رسمية غير مباشرة بوساطة واشنطن، وفي مقر الأمم المتحدة في بلدة الناقورة في جنوب لبنان، بين وفد لبنان وآخر يمثّل "إسرائيل"، لترسيم الحدود البرّية والبحرية أو تثبيتها، لأنّ خلافاً على نقطة ترسيم إحدى النقاط عند الشاطئ أدّت إلى خلافٍ على حجم "البلوك" النفطي رقم 9، فلبنان اعتبر أن "إسرائيل" هيمنت على ما مقداره أكثر من 850 كيلومترا مربعا من "البلوك". وتعثرت هذه المفاوضات بعد بضع جلسات، ولم تفضِ إلى نتيجة، ما أدّى إلى تأجيلها إلى موعد غير محدّد.
الصراع بين لبنان ودولة الاحتلال على الدجاجة التي تبيض ذهباً أسود، على النفط والغاز، أو ربما حتى على الوجود وليس الحدود
وفي ضوء هذا التعثّر، وفي ضوء الصراع على أكثر من عنوان، يتصاعد التوتر بين لبنان ومن خلفه، أو في أساسه حزب الله، و"إسرائيل". ويتم تبادل الرسائل المشفّرة أو غير المشفّرة بشكل مباشر أو غير مباشر جزءا من عملية التهديد بين الطرفين، أو جزءا من عملية الضغط وإظهار عناصر القوّة التي تعطي كل طرفٍ فرصة تحقيق نقطةٍ على حساب الطرف الآخر، وصولاً إلى الكشف أخيرا عن اكتشاف "كوماندوس إسرائيلي" نزل في بلدة الجيّة على الطريق الساحلي الذي يربط العاصمة بيروت بالجنوب، ثم غادرها قبل أن يتم اكتشافه والتصدّي له، ومن دون معرفة الأسباب والخلفيات لهذا الإنزال البحري حتى الساعة، أو من دون الكشف عن ذلك. في مقابل إرسال طائرات "درون" مسيّرة، استطاعت أن تخرق الأجواء في فلسطين المحتلة، وأن تعود إلى جنوب لبنان. هذا ناهيك عن تهديداتٍ باغتيال، يتعرّض لها مسؤولو حزب الله كل يوم من الطرف الإسرائيلي، ما جعله يتخذ سلسلة إجراءات أمنية أخيرا منها تغيير خطة السير في الضاحية الجنوبية، المعقل الأساسي للحزب، واعتماد خطة سير بديلة، اعتبر بعضهم أنّها تعرقل أية نوايا إسرائيلية لتنفيذ اغتيالاتٍ في قلب الضاحية. هذا بالطبع فضلا عن إجراءات أمنية أخرى.
وبالعودة إلى دجاجة الفتى حسين، كانت النتيجة التي وصلت إليها الأطراف المعنية بهروب الدجاجة إلى المقلب الآخر من الحدود إيجابية للجميع. بمعنى آخر، الكل خرج منها رابحاً. استعاد حسين دجاجته. ولبنان، وفي أساسه حزب الله، ظهر في مظهر الذي لا يتهاون ولا يتنازل، حتى عن مجرّد دجاجة لا تبيض، وقد أعاد الدجاجة للفتى الذي طالما ردّد أنّه يريدها. و"يونيفيل" ظهرت بمظهر الحريصة على المتابعة والتنسيق واستمرار الهدوء على طرفي الخط الحدودي، واستطاعت أن تحل المشكلة. وقوات الاحتلال ظهرت بمظهر حضاري لا يتردّد في إسعاد فتى أو إعادة ما يعتبره حلماً أو حقّاً له. خرج الجميع من هذه العملية رابحاً، وبإمكانه أن يسوّق ذلك في محيطه ومجتمعه. ولكن السؤال الذي يبدو في حاجةٍ إلى إجابة، هل تمثّل هذه الواقعة مثلاً وطريقاً لحلّ باقي الأزمات، ومنها البلوك النفطي وصواريخ الحزب وغيرها، على طريقة استعادة دجاجة حسين؟ بمعنى آخر، يخرج الجميع منها رابحاً، وكلّ بما يقنع المحيط الذي يعيش فيه أو يديره؟ أم أنّ الصراع الحقيقي هو على الوجود قبل أن يكون على الحدود وما يتصل بها؟ بانتظار الأيام التي ستكشف ذلك، وهي ليست بعيدة.