أن تضرب صواريخ إيرانية تلّ أبيب

04 أكتوبر 2024

فلسطينيون في دورا قرب الخليل يحتفلون ببقايا صاروخ إيراني (1/10/2024 فرانس برس)

+ الخط -

قطع الحرسُ الثوري الإيراني حالةَ صمت كانت سائدة في طهران، سيّما خلال الأسابيع الماضية، وقصف فجأة، ومن دون مقدّمات أو لفت انتباه، قواعدَ عسكريةً إسرائيليةً في معظم الأراضي الفلسطينية المحتلّة بعشرات الصواريخ التي تسبق الصوت، فلم يكن لدى المستوطنين الوقت الكافي ما بين الاستجابة لنداء الجبهة الداخلية والنزول إلى الملاجئ، ووصول الصواريخ إلى سماء الأراضي الفلسطينية المحتلّة والقواعد العسكرية الجويّة الإسرائيلية المُستهدَفة.
دحض الحرس الثوري الشكوك والنيّات كلّها التي اتهمته وإيران بالتقاعس عن الردّ أو الثأر لرئيس المكتب السياسي لحركة حماس، إسماعيل هنيّة، الذي اغتالته "إسرائيل" حين كان ضيفاً على الجمهورية؛ وكذلك الردّ أو الثأر لأمين عام حزب الله، حسن نصر الله، وقائد فيلق القدس في لبنان، اللواء عباس نيلفروشان، اللذين اغتالتهما "إسرائيل" في ضربة جويّة دمّرت فيها أحياء كاملةً في الضاحية الجنوبية لبيروت، وسقط فيها أيضاً مئات الشهداء من السكّان المدنيين. ووجّه الحرس ضربته الصاروخية بكلّ سرّية فاجأت القيادة العسكرية الإسرائيلية والعالم، واستهدف القواعد الجويّة والاستخباراتية التي كانت ضالعةً في عمليات الاغتيال والقتل. وأعلن الحرس الثوري المسؤولية عن الضربة، وشدّد على أنّ أيّ ردّ إسرائيلي عليها سيُواجه بضربة أكثر قسوة وتدميراً، وسيستهدف البنى التحتية في كيان الاحتلال، مستعيداً بذلك قوّة الردع التي انتشى بها رئيس حكومة الاحتلال نتنياهو في ضوء جرائمه واغتيالاته بحقّ اللبنانيين، وملقياً (الحرس الثوري) الكرةَ في الملعب الإسرائيلي لناحية تطوّر الأمور والانزلاق بالمنطقة إلى حرب إقليمية واسعة، تغيّر فعلاً وجه المنطقة بشكل كامل.
والحقيقة أنّ رئيس وزراء كيان الاحتلال الإسرائيلي سعى جاهداً، في ضوء فشله في تحقيق أيٍّ من أهدافه في عدوانه على غزّة، إلى إعادة خلط الأوراق في المنطقة، والعمل بشكل حثيث لإدخالها في حرب واسعة تشترك فيها قوىً إقليميةٌ ودوليةٌ، وفي طليعتها الولايات المتّحدة، لأنّه ما زال يعتبر أنّ الحلّ والخلاص الوحيد له شخصياً، ولكيانه المأزوم، إشعال هذه الحرب وإعادة خلط الأوراق، ولذلك تجاوز منذ قرابة الشهرَين، بعد تيقّنه من هزيمته في غزّة، الخطوط الحمر كلّها، والقواعد التي كانت تحكم المواجهة والاشتباك، وفعّل سياسةَ الاغتيالات التي بدأها باغتيال القائد العسكري لحزب الله، فؤاد شُكر (30 يوليو/ تمّوز 2024)، وفي صباح اليوم التالي، اغتيال هنيّة، في طهران، وتُوّج ذلك باغتيال أمين عام حزب الله، حسن نصر الله (27 سبتمبر/ أيلول)، وراح بعد ذلك يُعلِن بكلّ صلافة أنّه يريد أن يغزو لبنان برّياً، ويغيّر وجه الشرق الأوسط برمّته انطلاقاً من لبنان، وأطلق لطائراته العنان في قتل المدنيين وارتكاب المجازر وتهجير السكّان بشكل جماعي، وتوعّد دول المنطقة كلّها من على منبر الأمم المتّحدة. وقبالة هذه التطوّرات، وهذا المشهد المفعم بالغطرسة الإسرائيلية، كان لا بدّ من ردٍّ ومن تحرّكٍ يعيد التوازن إلى المنطقة، أو يفتح الأمور فيها على الاحتمالات كلّها. هل انزلقت إيران إلى تحقيق رغبة نتنياهو في إشعال حرب إقليمية واسعة بإطلاق صواريخ على قواعد عسكرية إسرائيلية في فلسطين المحتلّة؟

قرّرت إيران الردّ على إسرائيل لأنّ ذلك بات ضرورةً للحفاظ على قوّة إيران ودورها الإقليمي، وباتت المنطقة مفتوحة على الخيارات كلّها

الحقيقة لم يكن أمام إيران خياراتٌ كثيرةٌ، فبعد استهداف القنصلية الإيرانية في دمشق (نيسان/ إبريل الماضي)، وبعد اغتيال هنيّة في طهران، وبعد اغتيال نصرالله في بيروت، وبعد الشعور بالنشوة والعمل لفرض الإرادة الإسرائيلية على المنطقة كلّها، وجدت إيران نفسها أمام خيارَين: أنّ تظلّ معتصمةً بالصمت. وبالتالي، ستظلّ كرة النار تتدحرج صوبها آكلةً من رصيدها، وصولاً إلى تجريدها من مكامن قوّتها المتمثّلة بحلفائها في المنطقة، وبذلك ستتحوّل لاحقاً إلى نمر من دون أنياب، وتصبح لقمةً سائغة للوحش الإسرائيلي، وبذلك تخسر حلفاءها وتخسر نفسها لاحقاً أيضاً؛ أو أن تذهب إلى الحرب علّها توقفها وتعيد هي أيضاً خلط الأوراق بما يحافظ على قوّتها وردعها، وبما يقطع الطريق على أيّ تحرّك داخلي لقوى معارضة يمكن أن يصدّع رأسها بدعم من خصومها وأعدائها، خاصّةً أنّ إيران تدرك أيضاً أنّ الولايات المتّحدة لا تريد حرباً في المنطقة تشغلها وتصرفها عن اهتمامها الأساسي في أوكرانيا.
أمام هذا الواقع، وهذه التحدّيات، قرّر المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني الذهاب إلى خطوة الردّ الصاروخية، وكان جادّاً، لأنّها باتت ضرورةً للحفاظ على قوّة إيران ودورها الإقليمي، ولأنّها خطّ الدفاع الأول عن طهران، وكذلك فإنّ إيران جادّة أيضاً في تهديدها بضرب البنية التحتية الإسرائيلية في حال ردّ كيان الاحتلال على الضربة الصاروخية، فمنطق الأمور بالنسبة إلى إيران لم يعد يحتمل الصمت والانتظار.
باتت المنطقة الآن مفتوحةً على كلّ الخيارات، وتنذر بحربٍ واسعةٍ ومدمّرةٍ تعيد خلط الأوراق ورسم الخرائط من جديد بالفعل، إلاّ إذا عادت لغة التسويات وتقدّمت، وهذا لن يكون إلاّ حال استشعار الجميع حجم الخسائر التي يمكن أن يتكبّدها الطرفان المتصارعان. الشيء الوحيد الثابت أمام هذه الأحداث والتطوّرات أنّ منطق الظلم والتسلّط لا يمكن أن يدوم إلى الأبد.