ليتها قراءة خاطئة للمشهد السوداني

25 ابريل 2023
+ الخط -

هي حالة نادرة للغاية، وقليلاً ما تحدُث لكاتب سياسي يرى الأمور من زاويةٍ مغايرة، حين يجد المرءُ العاقل الراشد نفسه موزّعاً بين منطقيْن متضادّين وضرورتين موضوعيّتين ومسؤولية أخلاقية واحدة، أي بين موقفٍ يقتضي منه بسط ما يراه حقائق سياسية نسبية، ينبغي أن تُقال بملء الفم من دون مواربة، وعاطفة فوق شخصية تفيض بالحدب والإشفاق على قومٍ يتشارك وإياهم الأمل والألم، التاريخ والجغرافيا، ويشاطرهم الهمّ والغمّ، وكل ما يشكل الوجدان المشترك لأبناء هذه الأمة المستغرقة في الأزمات المتنقلة.
على هذه الخلفية، رغبتُ في استهلال هذه المقاربة الخاصة بالتطورات السودانية المتلاحقة، بالقول مسبقاً إنني أودّ، من صميم قلبي، أن تكون قراءتي المتشائمة لهذه التطوّرات خاطئة بالجملة، ومتسرّعة إلى حد ما، تغيب عنها بعض المعطيات، وتفتقر إلى فهم ناقص أو مجزوء لتعقيدات وملابسات وتوازنات حالة بلد عربي أفريقي كبير، ينوء تحت أثقال من المتاعب والمصاعب المتفاقمة، سيما ونحن أمام طفرة نزاع كبرى، أنتجت مشهداً يُنذر بمزيد من التحدّيات المصيرية الملحّة، ناهيك عن التهديدات الوجودية، على ضوء ما تشي به حالة الاحتراب على  السلطة، بين الإخوة الأعداء، لا غفر لهم السودانيون أبداً.
في التشخيص الذي لا يجامل ولا يُجمّل الوضع القائم، نحن أمام حرب داخلية بين قوتين عسكريتين متكافئتين في العديد والعدّة، وربما الشرعية، تودّ كل منهما الاستفراد بالحكم الذي تقاسمتاه على مدى السنوات القليلة الماضية، وذلك تحت ذرائع متهافتة وغير مقنعة، بما في ذلك زعم التخلّص من الإسلام الراديكالي والمضي إلى الانتقال الديمقراطي، فيما الحقيقة الصارخة في مكان آخر، الأمر الذي يفتح الطريق واسعاً أمام حرب أهلية، حتى وإن أخذت مسمّياتٍ فرعيةً بديلة، ومثل هذه الحرب عادة ما تكون طويلة ومريرة وقاسية، لا قيد فيها على حدود القوّة المتاحة، ولا رحمة فيها للخصم أو الغريم إذا مالت الكفّة ضده، على قاعدة "إما أن تكون قاتلاً أو مقتولاً"، ما يعني القتال حتى آخر طلقةٍ في الجعبة العسكرية.
وكما تدلنا عليه وقائع الحروب الأهلية الغضّة بعد في الذاكرة، سوف نشهد، على الأرجح، مزيدا من التصعيد السياسي والاستعصاء العسكري، ونرى الاتّساع في رقعة الحرب الطاحنة، ونتابع الاحتدام أكثر فأكثر في المواجهات الدامية، خصوصا وأن الخطاب السياسي والإعلامي المترافق مع نشوب القتال اجتاز نقطة اللاعودة من اليوم الأول، واجتاز معها هوامش الحلول الوسط والتسويات الممكنة، ومضى القتال إلى أبعد من ذلك بكثير، من دون أن يترك للصلح مطرحاً، حين ارتدى الجنرالان، المتصارعان على المغانم والنفوذ والعصا، ثوب الاستقامة والتجرّد والمبدئية، وهو ثوبٌ لا يليق بأيٍّ من هذين الرجلين المتورّطيْن في علاقاتٍ مشبوهةٍ مع نتنياهو وإيلي كوهين.
وفي خضم هذه الحرب التي ستطول مع الأسف، وتزداد ضراوةً كل طالع فجر، سيما داخل العاصمة المثلثة، فإن من المؤكّد أننا سوف نشهد أيضاً دعوات كثيرةً طيباتٍ صالحات لوقف إطلاق النار والعودة إلى الحوار، وهي دعواتٌ تشبه، في جدواها، تحذيرات وزارات الصحّة من الأمراض التي تسببها السجائر للمدخّنين، الذين لا يلتفتون إلى النصائح بالمجّان. وعليه، سنشهد كذلك هدنا عديدة زائفة وحالات وقف إطلاق نار مخاتلة، فيما الدافعية للحرب تشتدّ وتتضاعف مع مرور الوقت، وتتغذّى من الفشل في تحقيق الحسم لدى هذه الطرف أو ذاك، خصوصا إذا توفّر لأحدهما أو لكليهما دعمٌ من الخارج، الذي لا يأبه بمعاناة شعبٍ أنهكته الحروب والانقلابات والعقوبات.
إزاء ذلك كله، يمكن القول، بالحد الأدنى من التحفّظ، إن السودان الذي كان قد دخل، عقب سلسلةٍ من الانقلابات العسكرية المتعاقبة جملةً من الأنفاق المظلمة، وراوح فيها مُددا متفاوتة، قد دخل اليوم نفقاً هو الأطول في تاريخه، ودشّن مع هذا الاحتراب السقيم زمناً سودانياً لا يعد إلا بمزيدٍ من الموت والفقر والخراب، إن لم نقل إنه يهدّد بإضعاف سلطته المركزية، ومن ثمّة تفكيكه، أو ربما انفصال الولايات الطرفية في الغرب والجنوب بصورة واقعية، فيما العالم الخارجي، الذي أخذ يُجلي مواطنيه على عجل، سيواصل لعبة الانتظار والترقّب، ويستمر في إزجاء الدعوات المجّانية إلى وقف النار، والحثّ على الحوار، من دون أن يُقحم نفسه في أتّون حربٍ لا طائل من ورائها، ولا أخطار تلحق بمحيطها الإقليمي المجاور، الذي بدأ يعمل حثيثاً على احتواء كل ما قد يتطايَر من شررها.

45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
45AB6A9D-38F9-4C2C-B413-9E5293E46C8D
عيسى الشعيبي

كاتب وصحافي من الأردن

عيسى الشعيبي