ليبيا ... تتعدّد اللقاءات والنتيجة واحدة
تتجدّد اللقاءات بين متصدري المشهد في ليبيا، بعضها في تركيا وبعضها في مصر، وقليل منها داخل ليبيا، لقاءات سبق وأن أجريت على مدار سنوات بين الأطراف تقريبا، ولا جديد فيها سوى التاريخ الذي يتغيّر ليشهد على زمن استمر أكثر من عشر سنوات، ضيّعه هؤلاء في صراع محموم على السلطة، ومناكفات على شرعيةٍ لم يعد يملكها أحد من هذه الكيانات التي لم يشارك الليبيون في اختيارها، وإن شاركوا، كما حصل في مجلس النواب، فلم يكن اختيارهم له ليبقى إلى الأبد، ولا ليكون جزءا من مشكلة هذا الوطن، بل والمسبّب لها في كل مرّة، لقاءات اتفقت على الاختلاف وتفنّنت فيه، وأصبحوا يقتاتون عليه ويتاجرون به.
استضافت إسطنبول لقاءً دعا إليه علي الصلابي، المحسوب على التيار الإسلامي، والذي صرّح إنه لقاء جمع مختلف الأطياف في محاولة "لإيجاد حل للمشكل الليبي". استمرّ أياما، اتفق المجتمعون فيه على بيان ختامي أكدوا فيه، كما معظم الاجتماعات الليبية ، على "أهمية الحوار الوطني بين مختلف الأطياف السياسية كسبيل للخروج من حالة الأزمة التي تعانيها البلاد"، مؤكّدين، كما في أي لقاء، على "المحافظة على الثوابت الوطنية واحترام وحدة وسيادة الدولة الليبية، واعتبارها الإطار الجامع للانطلاق نحو العمل الوطني المشترك". وحث المجتمعون، في نهاية بيانهم، كلا من مجلسي النواب والدولة على "الإسراع بإنجاز متطلبات الاستحقاقات السياسية، كالقاعدة الدستورية وإيجاد سلطة تنفيذية موحّدة تقوم بتهيئة الظروف الملائمة لإجراء الانتخابات النيابية والرئاسية في أسرع وقت"، حيث لا أعتقد أنه سيغير من خط سير المجلسين، فهما يحاولان ذلك، من دون أن يحضّهم، ولكن في عرقلة أي جهود لتقريب وجهات نظر قد تؤدّي إلى المصالحة، وحرصا بإتقان على تجسيد الدور الوطني الذي يسعى لمصلحة البلد، والذي يضحّي بكل شيء من أجلها. أما اختلافهما فمرّة يكون على أحقّية مزدوجي الجنسية في الترشّح، ومراتٍ أخرى حول شرعية كل منهما، وغيرها من الاختلافات التي استمرّت من دون حل، رغم كثرة الحواضر التي احتضنت هذه اللقاءات، في محاولةٍ منها لإذابة الجليد وتقريب وجهات النظر، بعضها تحرّكها نيات صادقة في مساعدة الليبيين، وبعضها نكاية في الغريم السياسي، وأخرى لنيل نصيب من "حمص المولد" من خلال دعمهم حلفاءهم في الداخل.
مناكفات على شرعيةٍ لم يعد يملكها أحد من هذه الكيانات التي لم يشارك الليبيون في اختيارها
وبمجرّد الإعلان عن لقاء إسطنبول الذي جمع أكثر من 50 مشاركا، لم يعرف الليبيون كيف جرى اختيارهم أو الآلية التي جرى بها الاختيار، خصوصا وأن لديهم تحفّظا على بعض الشخصيات المشاركة، سيما المحسوبة على تيار النظام السابق، بمجرّد الإعلان عن هذا اللقاء، تحرّك الحسّ الوطني عند رئيسي مجلس النواب ومجلس الدولة، حسّ وطني يصحو من سباته فجأة، لأسبابٍ ليست مجهولة، والمعروف لا يعرّف، فكلما سمعا إن هناك اجتماعات لمجموعات غيرهما تحاول الوصول إلى كلمةٍ سواء، سارعا باللقاء من دون أن يكون هناك جديد يمكن أن يُطرح، أو مخرجات مختلفة متوقعة، نتيجة واحدة منذ أول لقاء بينهما، نتيجة تبعث على الضجر من كثرة تكرارها وترديدها، وأصبحت لا تهمّ الليبيين ولا ينتظرونها، فهي لن تختلف عن سابقاتها، مجرّد بياناتٍ هزيلة تثبت، في كل مرّة، فشل هذه الأجسام في تحقيق أي إنجاز طوال سنوات وجودها على المشهد الليبي، أصيب خلالها الناس بالإحباط وفقدان الثقة، وأصبح وجود هذه الأسماء، بصفاتها التي اغتصبتها لنفسها وأبت التنازل عنها، لا ينبئ بالمستقبل الذي تمنّاه من خرجوا في ثورة فبراير (2011) من أجل التخلص من حكم الفرد وإقرار مبدأ التداول السلمي على السلطة.
التقط ممثلو المجلسين الصور وهم يبتسمون الابتسامة المصطنعة نفسها أمام وسائل الإعلام، وليزفّوا خبرا لم يعد ينتظره أحد، بأن الاتفاق على القاعدة الدستورية بات قريبا، هم يعرفون أنهم يكذبون، ويعرف الليبيون أنهم كذلك. ودّعهم المسؤول المصري الذي رعى الاجتماع، وهو يعرف أنهم سيعودون، بعد وقت قصير، لمناقشة الموضوع نفسه، وليتوصلوا إلى النتائج نفسها.
أوصلت الاجتماعات وأخبارها معظم الليبيين إلى أنه "لا خير في نجواهم"، وأن المستفيد من وضعٍ لا يمكن أن يساهم في تغييره
اكتفى المجلس الرئاسي، والذي يبدو أنه آثر مقولة "إذا كان الكلام من فضة فالسكوت من ذهب"، بدور المتابع للأحداث، وكأن ما حصل ويحصل من كوارث وانقسامات وتشظّ يقع في كوكب آخر لا يهمه أمره، وأجاد، وبكل إتقان، الوقوف في المنطقة الرمادية، منهمكا في رحلاتٍ مكوكيةٍ لتمثيل البلاد في المناسبات الدولية، وما أكثرها، رحلات بطائرات خاصة انعكست مصاريفها، في بيان مصرف ليبيا المركزي الصادر أخيرا، والتي وصلت فيه إلى 775 مليون دينار في أقلّ من سنة (حسب البيان). ولكن، وفي خطوةٍ مفاجئةٍ، قرّر هذا المجلس الأخذ بخاطر الليبيين، وتذكّر أن أسفاره الدائمة أنسته مهمته الرئيسية التي كلفه بها ملتقى الحوار السياسي الليبي في جنيف في فبراير/ شباط 2021، فدعا إلى مؤتمر للمصالحة الشاملة، قال إنه "يهدف إلى جمع شتات الليبيين وحل أزمة مزّقت البلاد شرقا وغربا". وبالفعل، اجتمع أكثر من 150 مشاركا، قيل إنهم يمثلون "جميع الأطياف والأطراف والمكونات والمناطق الليبية"، حسب تصريحات المكتب الإعلامي في المجلس، إلا أن هذا المؤتمر، والذي انعقد في طرابلس، شهد تجاذباتٍ واستقطاباتٍ حادّة كثيرة بين المشاركين. ولكن المؤسف أن هذه الاختلافات لم تكن على وطنٍ منتهكٍ السيادة يخيّم عليه شبح التقسيم، أو على قواعد عسكرية أجنبية، إحداها على بعد كيلومتراتٍ من مقرّ الاجتماع، ولم يكن حول ضرورة جبر الضرر وتحقيق العدالة الانتقالية، وتسليم المتهمين، بل كان الاختلاف حول النشيد والعلم، حيث رفض من يمثلون أنصار النظام السابق أي حوار أو مصالحة تحت هذه العلم وهذا النشيد، باعتبارهما فرضا على هذا الشعب، من دون أن ينصّ عليهما أي دستور، الأمر الذي استهجنه من يمثلون ثورة فبراير، معتبرين ذلك بأنه البحث عن عقباتٍ تحول دون أي توافق.
وعلى الرغم من التصريحات الإيجابية لبعض أعضاء المجلس الرئاسي، إلا أن أطرافا ليبية كثيرة اعترضت وتحفظت عليه، حيث أعلن المجلس البلدي في مدينة مصراتة رفضه أعمال هذا الملتقى، وقال إن ذلك لم يكن سوى "صفقة سياسية مشبوهة"، مضيفا أنه يحمّل المجلس الرئاسي مسؤولية ما أسماه "التلاعب بملف المصالحة والمساس بمبادئ فبراير"، كما صرّح رئيس مجلس أعيان ليبيا، الشيخ محمد المبشّر، إنه امتنع عن الحضور، لأنه ليس هناك قانون شامل وعادل للعدالة الانتقالية، حسب تصريحه، مضيفا أنه "يشترط في المصالحة الرغبة الصادقة من جميع الأطراف بغية إنهاء الخصومة".
وفي كل الأحوال، لا جديد في هذه اللقاءات، الأسماء والمناصب نفسها، قضوا عشر سنوات وهم يطيرون. نزلوا ذات يوم في غدامس، فقال الليبيون: نِعم التوجّه ولا بدّ لليبيين إلا الحوار على تراب ليبي، لكنها محطّة لم تلبث إلا عشية أو ضحاها، وغادرها المجتمعون متعللين بالأسباب نفسها، مفضلين نشر "الغسيل الليبي" على حبال عواصم مختلفة. وفي بداية هذه الاجتماعات، تفاءل الليبيون بغيثٍ نافع بعد سنواتٍ من قحط أتى على الزرع والضرع. ولكن ومع كل اجتماع، تبدأ موجات التفاؤل في الانحسار إلى أن أوصلت هذه الاجتماعات وأخبارها معظم الليبيين إلى أنه "لا خير في نجواهم"، وأن المستفيد من وضعٍ لا يمكن أن يساهم في تغييره.