لو كنتُ بابا الفاتيكان
لافتةٌ زيارته علي السيستاني، وأسوأ ما فيها أنّه لم يتفكّر شرط الأخير عليه: ألّا يأتيه بأيّة شخصيةٍ من النظام الحالي. أراد المرجع الأعلى لشيعة العراق للبابا أن يدقّق أين تطأ قدماه في العراق، أي أن تشيح أبصاره عن النظام، وأن يدقّق في أوضاع الشعب العراقي بأكمله .. ولكن هل فعل السيستاني ذلك؟ نناقش ذلك لاحقاً. أخفق الرجل الذي سمعته عطرة، حيث له مواقف إنسانية كثيرة، وفي دول كثيرة، فلم يتحدّث بكلمة عن أوضاع اللاجئين في العراق، ولا دعم ثورة العراقيين التي ضحّت بأكثر من 900 شهيد، ولا أدان المليشيات الطائفية. والأسوأ أنه لم يهتم بلقاء ممثلين معتبرين عن الطائفة السنيّة، ومثالنا هنا المرجعية السنية للمجمع الفقهي في جامع الإمام أبي حنيفة النعمان.
لستُ ممن ينشغل بالدين أو يخلطه بالسياسة، وأنحاز للفصل الكامل بينها، ولكن ما ظهر للعيان أن الرجل زار الموصل، ولديه معرفة دقيقة بما جرى في العراق بعد 2003، وهذا يتطلب منه، وهو أعلى شخصيةٍ في الطائفة الكاثوليكية في العالم، موقفاً إنسانياً من قضايا العراق، سيما أنه ليس ممثلاً لدولةٍ ويريد ضمان مصالحها، وأغلبية رعاياه تركوا العراق، وهناك سمعته الأخلاقية العالية. كان عليه أن يكون حازماً، وأن يلتقي وفودا من الثورة ومن الطائفة السنيّة بالتحديد، وكان ذلك ليشكل فائدة ما ولصالح توازناتٍ أكثر واقعية، افتقدها العراق من 2003.
لو كنت البابا لطلبت، قبل أن تطأ قدماي العراق، ورقة دقيقة عن مشكلات العراق الحالية
يضمر عدم لقائه مع ممثلين عن الطائفة السنيّة موقفاً سلبياً منها، وربما تحميلها وزر تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) كذلك، وما فعله في العراق، وتحديداً في الموصل. وللحق، أساء التنظيم المذكور للسنّة أولا ولكل الطوائف. وعدا ذلك، تُحمّل تقارير كثيرةٌ نوري المالكي، وكان رئيساً للوزراء، تسهيل دخول "داعش" الموصل. لنقل إن البابا لا يعي خطورة الوضع في العراق، والذي يُكثّف في نهب إيران خيراته، وسيطرتها عليه بعد 2003، وحرمان الطائفة السنية من أيّة حقوق، وكذلك أغلبية العراقيين، وهو الأخطر. وبسبب ذلك قامت ثورة العراقيين الحالية، والتي يسمّيها أهلها بالوطنية، ودلالة قاطعة على رفض الهيمنة الإيرانية. والتبريرات التي سيقت إن البابا التقى شيخ الأزهر في 2019 في أبوظبي، وبالتالي لا مبرّر للقاء ممثلي السنة في العراق، هي تبريراتٌ ساقطة، فليس للأزهر صفة سياسية خارج العراق، وفي مصر ينطق بلسان نظامه الاستبدادي، وبالتالي هناك ما هو ليس لائقاً في سلوك بابا الفاتيكان.
كنّا نحب، مع آخرين، ألا يكون للزيارة صبغة غير دينية، ولكن زيارات ممثل المسيح على الأرض فيها الديني والسياسي، وإلّا فعلام كل هذه اللقاءات مع السيستاني وشخصيات سياسية كثيرة؟ إذاً هناك موقفٌ سياسيٌّ خاطئ تبنّاه البابا، وعليه تعديل إصدار بيان يعتذر فيه عن أخطاء ارتكبها هناك، وتبدأ بعدم لقاء ثوار العراق وسنته والتنديد بالسلاح المليشياوي خارج أجهزة الدولة.
لو كنت البابا لطلبت، قبل أن تطأ قدماي العراق، ورقة دقيقة عن مشكلات العراق الحالية. أليس هذا ما يفعله من يتصف بالإنسانية والأخلاق والشفافية، وممثل نبي التسامح، على ما يقال. حينها سأكون أمام خياراتٍ واضحة: إمّا أن أذهب بمطالب معينة تعدّل الوضع هناك، أو لا أذهب من أصله، وحينها سأعلن سبب ذلك: هيمنة إيران على العراق، وقمع الثورة الشعبية، وانفلات المليشيات وتصفيتها كل من يرفض النفوذ الإيراني، وتهميش الطائفة السنيّة، ورفض نظام التمييز الديني والطائفي والعراقي، ولن أحلّل ما يقال إن زيارته تأتي في إطار تقريب العراق من الخليج، ودفعه نحو التطبيع مع إسرائيل.
المرجع الأعلى لشيعة العراق يتحمّل مسؤولية كبيرة عما يحصل في بلاده، وعن دماء تسيل هناك، وكذلك كل رجال الدين في هذا البلد
في الإطار المسيحي المحض، كان يفترض بالبابا، وقبل أن يذهب إلى العراق، أن يتواصل مع النظام هناك، ويضع مع ممثلي الأخير ترتيبات معينة لعودة المسيحيين المهجّرين إلى قراهم وبلداتهم، وربما عودة من سافر في العقود الأخيرة، والبدء بإعادة إعمار البلدات والأراضي، وسواه. وبالطبع، تفترض إنسانيته أن يتدارس معهم إعادة كل اللاجئين العراقيين ومن كل الطوائف. هل حملت زيارته أيّة أفكار حول ذلك؟ من الواضح أنه لم يكن في جعبة الرجل شيء قيّم، وهذا يجعل أيّ قارئِ لزيارته يوصي بإعادة التدقيق في سيرة هذا البابا، وبكل رجال الدين كذلك.
علي السيستاني مثلاً، ماذا فعل من أجل شيعة العراق؟ بل من أجل كل العراقيين. إنه يعلم حالة بلاده، وما ذكر أعلاه، فلماذا لا يعلن مواقف واضحة ودقيقة إزاء ذلك؟ ماذا يعني أن يوصي البابا، إذا صح ذلك، بألّا يأتي معه بأيّة شخصية سياسية، وهو من يرى حالة العراق ولا يفعل شيئاً؟ المرجع الأعلى لشيعة العراق يتحمّل مسؤولية كبيرة عما يحصل في بلاده، وعن دماء تسيل هناك، وكذلك كل رجال الدين في هذا البلد. ما معنى ألّا يندّد بوضوحٍ شديد بالذين يَقتلون العراقيين وهم معروفون؟ أيُّ علوٍّ عن التلوّث بقضايا المجتمع هذا، وهذا لا ينقله إلى تبنّي ولاية الفقيه والانشغال بأمور الحكم. لا، هذا يتعلق بالاهتمام بالحاجات الأولى للبشر، وبالخدمات الأولى التي تليق بإنسانيتهم، وبتأمين الاستقرار والأمن بمعناه الوجودي للرعايا.
زار البابا أسوأ نظامٍ يمرّ على العراق، ومن تبقوا من مسيحيين يحزمون حقائبهم للمغادرة
كان على البابا أن يتحدّث برسالة المسيح، الرافضة الظلم بكل أشكاله، وحالُ العراق فيه كل أشكال الظلم، وأن يتحدّث مع السيستاني نفسه، إن عليه أن يلقى خطبة لإيقاف الكارثة التي تتراكم في هذا البلد، والتي تتفجر تباعاً عبر الثورة الشعبية، ولكنها قد تنفجر بسياقات أخرى كذلك، ولا أقصد فقط إعادة إنتاج "داعش" جديد مثلاً، وهو لم ينته بعد.
لا قيمة إيجابية تُدوّن في سجل زيارة البابا العراق، وهناك قيم سلبية بالتأكيد. العراق لم يكن ينتظر من البابا إضافة نوعيّة أو كميّة. هي زيارة بروتوكولية للسلطة التابعة لإيران؛ هذا ما تنطق به أغلبية العراقيين.
زار البابا أسوأ نظامٍ يمرّ على العراق، ومن تبقوا من مسيحيين يحزمون حقائبهم للمغادرة، ولن تطمئنهم تلك الزيارة. وكان يمكن لأيّة شخصية في فاتيكانه أن تفعل ذلك، وألّا يتجشم عناء ذلك وهو الثمانيني.