لمن الغلبة .. للصدر أم للمليشيات؟
من مؤسّس أول مليشيا طائفية في العراق بعد الاحتلال، فتكت بآلافٍ من أبناء الطائفة الأخرى، وبمئات الأكاديميين والمهنيين والعسكريين، إلى صاحب مشروع وطني مناهض للطائفية، وداع إلى حل المليشيات وتسليم سلاحها إلى الدولة، وتصفية "الحشد الشعبي" من العناصر غير المنضبطة، ومن متوافق مع طروحات "دولة الولي الفقيه"، وساع إلى ترويج العلاقة الحميمية معها، إلى ناء بنفسه عن طروحاتها، ورافض تدخلاتها في الشؤون الداخلية للعراق، ومن مشاركٍ في السلطة عبر ممثليه، وبينهم من هو متهم بممارسات فساد، إلى مناشدٍ للكيانات السياسية بعدم التستر على الفاسدين، وإحالتهم إلى القضاء للاقتصاص منهم مهما كانت مواقعهم أو ارتباطاتهم، ومن مترفّع عن طلب الولاية لنفسه إلى ساعٍ للحصول عليها بأي ثمن.
ذلك هو زعيم التيار الصدري، مقتدى الصدر، رجل التقلبات والمتناقضات والألقاب العديدة التي يسبغها على نفسه، ومالئ الدنيا وشاغل الناس كلما عنّ له ذلك، والذي يبدو أن 18 عاما كانت كافيةً لتنقله من موقع المتمسك بالعملية السياسية الطائفية المدافع عنها إلى اللاعب المتمرّد عليها وعلى قواعدها، وقد أسعفته شعبويته بين فقراء الشيعة الذين يعتقدون فيه حاملا راية الطريق نحو دولة المهدي في إطلاق مبادرته أخيرا لتغيير المشهد السياسي بأكمله، مستمدّا حركته اللافتة هذه من "فائض قوة" جناه عبر الانتخابات النيابية أخيرا التي ضمنت له 73 مقعدا، بما يمثل ضعف المقاعد التي أحرزها خصمه اللدود زعيم حزب الدعوة، نوري المالكي، وأهلته لموقع اللاعب الأول في "العملية السياسية"، ومكّنته من تغيير "قواعد الاشتباك" وقيادة "انقلاب" سياسي، إذا ما قدّر له أن ينجح في إرساء دعائمه، فسوف يكون قد حقق إنجازا وطنيا يُحسب له، وإن كانت ثمة دلائل تفيد بأنه قد لا يكون قادرا على التقدّم بمشروعه "الوطني" الذي روّجه، وقد يتراجع عن وعوده كما فعل أكثر من مرّة. وبحسب ماكيافيلي، لا يحتاج السياسي أسبابا مشروعة ليحنث بوعده، خصوصا بعد أن أدرك خصومه من زعماء المليشيات والكيانات الخاسرة أنهم أصبحوا في دائرة الاستهداف، وأن الخطر يحيق بهم. ولذلك جمعوا أنفسهم في ما سمّوه "الإطار التنسيقي"، واستلوا سيوفهم، وهدّدوا بالإجهاز عليه وعلى مشروعه، إن لم ينصع لدعوتهم له، وينضوي معهم. وهم في ذلك يحاولون أن يداروا خسارتهم الفاضحة في الانتخابات، وتخلّي كثيرين عنهم بمزيد من الإنكار والعنجهية والاستقواء بالسلاح، وصولا إلى إخضاع خصومهم.
يظل المشهد محكوما بحالة سيولة متأرجحة بين دولٍ وقوى وأطرافٍ ليس بينها من يحرص على الدفاع عن العراق وحماية العراقيين
السؤال المطروح على أكثر من طاولة: أيهما يمكنه جرّ الحبل إلى ناحيته، مقتدى الصدر أم المليشيات، وأيهما سوف تكون له الغلبة، وقد أوشكت اللحمة بينهما أن تنفصم، بعد فشل جهود البحث عن تسويةٍ قامت بها طهران. وكان قائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، إسماعيل قاآني، قد أخذ دور "فاعل الخير"، وحاول لملمة الأمور، والدفع باتجاه إعادة إنتاج "العملية السياسية" القائمة، لكنه فشل في ذلك، ورجع إلى طهران ترافقه الخيبة. وهذا ما دفع الرئيس الإيراني، إبراهيم رئيسي، إلى الاتصال شخصيا برئيس الوزراء العراقي، مصطفى الكاظمي، والطلب منه "الوصول إلى حل قانوني وشفاف"، في عقدة نتائج الانتخابات التي ما تزال موضع خلاف.
ثمّة جزء آخر من المشهد، تتنازعه قوتان، الولايات المتحدة وإيران، يزيد الأمر تعقيدا وتأزما، حيث أعلن الأميركيون أن أكثر من ألفي جندي سوف يظلون في العراق في دور استشارة وتمكين ومساعدة، وسيقومون أيضا بأية مهمات أخرى، إذا ما طلب العراقيون منهم ذلك. وردّت المليشيات بالتهديد بأنها ستطلق عملياتها ضد الأميركيين مع نهاية العام، وهو الموعد المحدّد للانسحاب الأميركي، وزادت بدعوتها العراقيين إلى التطوع في صفوفها، استعدادا لما أسمتها "المواجهة الحاسمة" مع الأميركيين. وهذا العرض للقوة تقف وراءه إيران التي تهيمن على فصائل المليشيات، حتى تلك التي ترفع راية "الحشد الشعبي"، ما يتيح لها تحريكها في الوقت الذي تشاء، وضد أي طرفٍ خصمٍ لها.
هذا يعني أن العراق لن يتمتع بحال هدوء واستقرار لزمن أطول مما يتراءى لنا. وفي كل الأحوال، يظل المشهد محكوما بحالة سيولة متأرجحة بين دولٍ وقوى وأطرافٍ ليس بينها من يحرص على الدفاع عن العراق وحماية العراقيين، وهذه هي العقدة التي لم تجد من يحلّها بعد.