لماذا يساند تونسيون الأسد ويعادون الثورة السورية؟
صُدِم تونسيون عديدون بالبيان الذي أصدرته الرابطة التونسية لحقوق الإنسان نهاية الأسبوع الماضي، وهي الرابطة الأولى التي تأسّست في أفريقيا والعالم العربي سنة 1987 لنشر ثقافة حقوق الإنسان والدفاع عن المظلومين والمضطهدين. لا يبدي البيان أيّ موقف تجاه رحيل بشّار الأسد، ويُغفل جرائمه، في حين يُشنّع في مقابل ذلك بالمعارضة السورية، ويعتبرها مجموعاتٍ رجعيةً عميلةً وُطّنت في سورية... إلخ. وسبقه بيان آخر لحزب العمّال الشيوعي، يقرأ الحدث السوري تقريباً بالمفردات نفسها. وحتّى يمنح هؤلاء مشروعيةً لهذه المواقف البائسة، يركّزون على الاحتلال الإسرائيلي وجرائمه، حين دمّر مقدّرات الجيش السوري. يذهب هؤلاء إلى ربط آلي بين المعارضة السورية وإسقاطها النظام، ودور الاحتلال في ذلك، ملمّحين طوراً إلى إسرائيل، وطوراً آخرَ إلى تركيا.
علينا أيضاً (للإنصاف وللتاريخ) أن نذكّر أن الثورة التونسية كانت أوّل من ساندت الثورة السورية، غامر آنذاك الرئيس المنصف المرزوقي وجمع للمرّة الأولى "مؤتمر أصدقاء سوريا"، في تونس العاصمة (24 فبراير/ شباط 2012). كانت الثورة السورية في أوج عنفوانها قبل أن تمتدّ إليها يد الإرهاب، لتخرّب وتعبث بها بشكل مريع. دفع المرزوقي ثمن تلك المبادرة الشجاعة ثمناً سياسياً باهظاً، خصوصاً بعد أن تعسكرت الثورة السورية، ودخلت البلاد حرباً أهليةً مدمّرةً، استغلّها بشّار الأسد ليرتكب الجرائم الفظيعة.
في هذه المناخات المتّسمة بالانكسار، بادرت عديد من الفصائل اليسارية والقومية في تونس، ونكاية في الثورة التي هيمن على مشهدها السياسي آنذاك الإسلاميون (حركة النهضة)، إلى تمتين العلاقة مع النظام السوري. وزار وفد من البرلمانيين التونسيين بشّار الأسد، للتعبير عن مساندتهم له في مناسبتَين: في مارس/ آذار 2017، ثم في أغسطس/ آب من السنة نفسها. عبّر النواب في ذلك اللقاء عن مساندتهم المطلقة للأسد في حربه ضدّ الجماعات الإرهابية، وعن وقوفهم المطلق مع "الجيش العربي السوري". لم يثر هؤلاء مطلقاً قضايا الحقوق والحرّيات، ولم يسمعوا مطلقاً بالبراميل المتفجّرة، التي كانت تبيد جماعات سكّانية بأسرها. حدث ذلك في مناخات انكسار الثورة السورية، وفتح باب جهنّم على كلّ من ناصرها باعتباره مناصراً للإرهاب. فُتِحت ملفّات التسفير، وظلّ الإعلام التونسي المضلل يردّد أن الأسد قدّم معلومات دقيقة عن تلك الشبكات واستغلّها بعضهم لتصفية حساباته مع خصومه السياسيين. لم يتردّد الاتحاد العام التونسي للشغل، تحت ضغط بعض مواقف قياداته من القوميين، في زيارة الرئيس (المخلوع) بشّار الأسد، وقاد الوفد آنذاك الراحل عضو المكتب التنفيذي، وذو التوجّهات القومية، بوعلي المباركي.
يصيب العمى الأيديولوجي نخباً تونسية فيجعلهم يقفون على حجم الانحراف الذي يجرف المشاعر ويجيّرها مساندةً سافرةً لأفظع الأنظمة
والحقيقة أن التونسيين يحشرون أنفسهم في كلّ ما يدور في أرجاء الوطن العربي. ربّما عروبتهم الفائضة (وتلك خلّة حقيقة نادرة) تجيز لهم التدخّل في شؤون غيرهم، بل لا يعتبرون غيرهم العربي غيراً أصلاً، فهم منهم وإليهم. يهتزّ التونسيون لما يهتزّ في مصر، وينفلون لما يصير في العراق، وينتفضون لما يحدث في فلسطين. يقدّمون مواقفهم وكأنّهم جزء أصيل من هذا البلد أو ذاك، وليس من الغريب أن ينتصر هذا للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، والآخر للجبهة الديمقراطية، أو للحزب الشيوعي اللبناني، أو حتى لحركة تحرير ظفار... إلخ.
لعروبة تونس الفائضة على تاريخها وجغرافيتها أسباب عديدة، والنُّخَب التونسية لعبت دوراً كبيراً. يمتدّ ذلك إلى تاريخ الحركة الوطنية، وفي بدايتها كان الشيخ عبد العزيز الثعالبي قد أقام سنة 1923 بالقدس، والتقى الحاج أمين الحسيني، حيث أعدّا لانعقاد المؤتمر الإسلامي الأول سنة 1932، وكان أينما حلَّ حظي بالتبجيل والتقدير. حتى الرئيس التونسي الراحل الحبيب بورقيبة كانت له حجّة مشرقية، تعرّب فيها بعد إقامته في باريس حيث تشكّلت مهجته الفرانكفونية، أقام بالقاهرة (1947)، وأسّس مع غيره "مكتب المغرب العربي"، ويقال إنه التقى هناك زعامات الإخوان المسلمين، ومنهم الشيخ حسن البنّا.
الصراع السياسي الدامي الذي شجّ الحركة الوطنية بعيد الاستقلال، الذي تقاتل فيه الزعيمان صالح بن يوسف والحبيب بورقيبة (خصوصاً أن الأول قد استفاد من دعم الزعيم جمال عبد الناصر)، قد غذّى هذا الاهتمام التونسي بالقضايا العربية. تفيد دراساتٌ عديدة بأن مئات من التونسيين تطوّعوا في حرب 1984 وسافروا إلى فلسطين على الأقدام للمشاركة في المعارك. دعمت الحركة الطلابية في سبعينيّات القرن الماضي، وهي في أوجها، تلك الميول العروبية، وذهب بعضها إلى القتال مع فصائل منظّمة التحرير الفلسطينية، وآخرون إلى الدفاع عن العراق إبّان الحرب الإيرانية العراقية... إلخ.
لا يمكن للتونسيين أن يكونوا غير مبالين أو محايدين تجاه ما يجري في البلدان العربية، غير أن العمى الأيديولوجي، الذي يصيب نُخَبها المتسيّسة (تطرّف يساري، وقومي) تجعلهم يقفون على حجم الانحراف الذي يجرف تلك المشاعر ويجيّرها مساندةً سافرةً لأفظع الأنظمة التي تتوهّم أنها آخر حصن يدافع عن القومية والعروبة.